د. حسن أبو طالب يكتب:

حرب أوكرانيا وحدود التغيير المنتظر في النظام الدولي

أحد الأسئلة المهمة التي طُرح بشأنها جدالًا واسعًا، منذ بدء الحرب في أوكرانيا في 24 فبراير 2022، وما زالت تبحث عن إجابات، تتعلق بتأثير الحرب على النظام الدولي  وإلى أي مدى سوف يتشكل نظام دولي جديد في المدى المتوسط كأحد نتائج تلك الحرب؟ السؤال يجد إجابات عدة، في حين  يتريث الغالبية في تقديم إجابة حاسمة، لاسيما وأن الحرب بعد مرور ثمانية أشهر لم تُحسم بعد، والمعارك على الأرض مازالت تشهد تحولات ميدانية كبرى متضاربة بين كر وفر وانسحابات أحيانًا وتقدم أحيانًا أخرى لهذا الطرف أو ذاك. فضلاً عن ما يرافق تلك المعارك التي ما زالت محصورة في الأرض الأوكرانية من حملات سياسية ودعائية تتولى قيادتها الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون للتعريض بالرئيس الروسي بوتين شخصيًا، وتحميله مسئولية اندلاع الحرب وما جلبته من خسائر فادحة في الأرواح والبنية التحتية والمعدات العسكرية وغيرها، مع إنكار دور السياسات الغربية المناهضة لروسيا، وحقها في  الدفاع عن أمنها القومي في التمهيد للحرب.

ومن أجل فهم حدود التغيير المتوقع الذي سوف تحدثه الحرب الأوكرانية في النظام الدولي، فإن المقالة تحاول في البداية مناقشة طبيعة الضغوط الأمريكية والأوروبية في استمرار الحرب، وما تشكله من حرب بالوكالة، ثم محاولة فهم حقيقة المواقف الغربية المتباينة المطروحة بخصوص التفاوض مع روسيا، وهل تُعد مدخلًا لتسوية الحرب؟ مع تحليل أبرز المحفزات والعقبات الخاصة بتغيير النظام الدولي. ثم مناقشة العوامل الهيكلية للقوة الأمريكية، وكيف يمكن أن تجعل من أمر إزاحتها كليًة عن قيادة النظام الدولي ليس بالأمر المتاح في المديين القصير أو المتوسط، مع تحليل ركائز استراتيجية «الردع المتكامل» الأمريكية تجاه كل من روسيا والصين، وأخيرًا تحليل العوامل التي ترجح من إرجاء قيادة الصين للعالم.  

أولًا: الضغوط الأمريكية والأوروبية .. الحرب بالوكالة
يلعب الضغط العسكري الأمريكي والأوروبي، ومن قبل حلف الناتو دورًا رئيسيًا في استمرار الحرب، وهو ضغط غير مسبوق على القوات الروسية لم يكن متوقعًا من قبل المخططين الروس، والذي يتمثل في  تقديم المساعدات العسكرية التي مازالت مستمرة، والتي شملت الصواريخ متعددة المديات، والمدفعية الموجهة، والطائرات المسيرة، وأجهزة الرصد والتوجيه الحديثة والمدرعات، ومنها ما جُلب مباشرة من مخازن الجيش الأمريكي ومخزونات جيوش ألمانيا وفرنسا وبريطانيا وبولندا وإيطاليا، ومنها ما تم تصديره مباشرة من شركات السلاح الأمريكية والبريطانية تحديدًا إلى أوكرانيا بدون إجراءات التحقق والتدقيق المعتادة. وتشير تقارير غربية إلى تسرب بعض تلك الأسلحة إلى جهات غير معلومة.

وبالتالي، أسهمت تلك المساعدات العسكرية في رفع قدرات الجيش الأوكراني، والتعزيز من صموده أمام القوات الروسية، بل وتقدمه في  بعض المحاور، في  الجنوب والشمال، وأبرزها استعادته السيطرة على أجزاء من مدينة خيرسون، بعد انسحاب القوات الروسية منها مطلع نوفمبر الماضي. كما شمل الدعم الغربي تيسير التجنيد والدفع بعدة آلاف من المتطوعين الأوروبيين، وكثير منهم ذوي  خبرات عسكرية العالية لمساندة الجيش الأوكراني. كذلك لا يخلو الدعم الغربي  العسكري  من تقديم المعلومات الاستخبارية حول التحركات الروسية ميدانيًا، والنصائح والاستشارات العملية بكيفية الرد المضاد، وإدارة عمليات المواجهة على الأرض.

هنا يجب التنويه إلى أن الدعم الغربي غير المسبوق المقدم إلى أوكرانيا لا يقارن بأى دعم قد حصلت عليه روسيا، سواء ما يُثار بشأن حصول القوات الروسية على عدد من الطائرات المُسيرة إيرانية الصنع، أو ما تزعمه بعض وسائل الإعلام الأمريكية نقلاً عن مصادر استخباراتية حول توريد كوريا الشمالية عدة آلاف من قنابل المدفعية للجيش الروسي، أو التلميحات بمساعدات عسكرية غير محددة من جانب الصين. وعدا ما اعترفت به إيران من تقديم عدد محدود من الطائرات المسيرة، فقد نفت كل من الصين، وكوريا الشمالية التقارير الغربية، والتي  يُسهل تصنيفها كإحدى أدوات الحرب الدعائية والنفسية التي يمارسها الغرب ضد روسيا وجيشها.

ترتيبًا على ما سبق يمكن القول إن الحرب في أوكرانيا، والتي ما زالت محصورة في أراضيها، تجسد حالة حرب بالوكالة بين روسيا من جانب، والولايات المتحدة الأمريكية، وحلفائها الغربيين من جانب آخر، ما يجعل تطوراتها ونتائجها المحتملة، إما انتصارًا كليا أو جزئيًا، أو هزيمة كاملة، أو جمود الأمر الواقع، من حيث السيطرة الروسية على أجزاء كبيرة من شمال أوكرانيا، والتكيف الدولي معه. تلك المتغيرات الاستراتيجية سوف يتحدد على أساسها مكانة روسيا في النظام الدولي  في  المرحلة المقبلة، ومن ثم الإطار الجديد الذي سيحكم علاقات القوى الكبرى وحالة السلام الدولي ككل.

ثانيًا: أبعاد الموقف الغربي بشأن التفاوض مع روسيا

وعلى الرغم من حدة الخطاب الغربي ضد روسيا، واستمرار تقديم المساعدات العسكرية والاقتصادية الهائلة، وتمسك أوكرانيا على لسان رئيسها زيلينسكى بعدم التفاوض مع روسيا إلا بعد ما وصفه اختفاء الرئيس بوتين وانسحاب كامل للقوات الروسية من الأراضي الأوكرانية، وفقًا لشروطه، فقد يبدوا أن الأمر اختلف نسبيًا مع منتصف شهر أكتوبر الماضي، حين ألمح مسئولون أمريكيون عن موقف جديد يتبنى مبدأ المفاوضات لإنهاء الحرب، وذلك في صورة نصائح للرئيس الأوكراني  بعدم التشدد في المواقف وإبداء مرونة أكبر، مع التأكيد على أن الولايات المتحدة وإن استمرت في دعم أوكرانيا ماليًا وتسليحيًا، فإنها لا تفكر أبدًا في الدخول في حرب مباشرة مع روسيا، وكذلك لن يفعل الناتو، باعتبار أن أي مواجهة من هذا النوع تعني حربًا نووية مدمرة لن يفوز فيها أحد، وهو ما تتجنبه الولايات المتحدة.

نصائح واشنطن بالتفاوض، رافقتها مواقف فرنسية لتأييد المبدأ وإبداء استعداد شخصي من الرئيس ماكرون للقيام بدور ما لتسهيل تلك المفاوضات، وفي السياق ذاته أبدى الرئيس التركي أردوغان استعداد بلاده للقيام بجهود من أجل تيسير بدء المفاوضات الروسية الأوكرانية. والواضح أن الضغوط الداخلية في العديد من البلدان الأوروبية، الناتجة عن تراجع الأوضاع الاقتصادية، وبروز آثار سلبية تراكمية نتيجة فرض العقوبات على روسيا، ووقف صادراتها من الغاز إلى الدول الأوروبية، ومؤشرات القلق المتصاعدة من الافتقار للطاقة اللازمة لمواجهة برد الشتاء المقبل، وما قد يحدث من توقف تام لأنشطة اقتصادية رئيسية. فضلاً عن الإدراك بعدم قدرة الجيش الأوكراني، رغم المساعدات العسكرية الهائلة التي  حصل عليها، من إلحاق هزيمة كبرى للقوات الروسية، وعدم الاستخفاف بالقدرات الروسية وما يمكن أن تسببه من دمار لأوكرانيا التي ينتظرها شتاء صعب للغاية، حسب تعبير الأمين العام لحلف شمال الأطلسي «ينس ستولتبرغ» في 14 نوفمبر 2022، داعيًا إلى وجوب عدم ارتكاب خطأ الاستخفاف بروسيا، رغم كل العقوبات والصعوبات والتعقيدات التي فرضت عليها. ومن ثم يُعد كل ما سبق عوامل شكلت في النهاية رؤية مختلفة، تدعو إلى التفاوض ووقف القتال والبحث عن نقاط توافقية تقبل بها روسيا لإنهاء الحرب.

أضف إلى ما سبق، هناك بعض المقاربات الأمريكية التي تدعو إلى الضغط على أوكرانيا لقبول التنازل عن جزء من أراضيها لصالح روسيا لإنهاء الحرب، ومنع التورط في مواجهة نووية تدمر العالم بأسره. ويعد هذا التحول متغيرًا مهمًا بالنسبة لمسار الحرب ونتائجها، مع الأخذ في الاعتبار أن المفاوضات ستواجه العديد من التعقيدات؛ نظرًا لتباين منطلقات كل طرف، لكنها تظل خيارًا مقبولاً كبديل لخطأ الإنجرار لحرب نووية.

وتؤكد تصريحات الرئيس الفرنسي ماكرون في قمة مجموعة العشرين التي عقدت في إندونيسيا يوم 15 نوفمبر 2022، على أن التفاوض هو الحل الأكثر مقبولية، مع ضرورة بذل الجهود الممكنة لجلب روسيا إلى طاولة التفاوض، ولم يذكر جلب أوكرانيا التي أكد رئيسها زيلينسكي على ألا قبول لاتفاقيات جديدة على غرار اتفاق مينسك الموقعة في سبتمبر 2014 بخصوص منح حكم ذاتي للأقاليم الأوكرانية ذات الغالبية الروسية، في  إشارة إلى رفض صريح لفكرة التنازل عن جزء من الأراضي الأوكرانية، والإصرار على الانسحاب الكامل للقوات الروسية من الأقاليم التي ضمتها موسكو كشرط يسبق التفاوض. بينما أكد وزير الخارجية الروسي لافروف الذي شارك في قمة مجموعة العشرين كممثل للرئيس بوتين، على أن بلاده مستعدة للتفاوض، دون أن يحدد شروط أو مطالب معينة.

تجسد هذه المواقف الدولية المتباينة حقيقة أن التفاوض مطروح كمنهج لتسوية الحرب، ولكن لم تتحدد معالمه بعد. ويظل الأمر مرهونًا بمدى التعقيدات التي ستنتج عن استمرار الحرب في فصل الشتاء القارس، وما ستمثله من ضغوط على قادة الغرب وأوكرانيا للدخول في مفاوضات جدية، بالإضافة إلى معالجة الآثار الكارثية المتوقعة للأزمة الغذائية العالمية.

ثالثًا: محفزات وعقبات تغيير النظام الدولي
المتفق عليه أن النظام الدولي الذي تشكل بعد الحرب العالمية الثانية وشهد مراحل متعددة من القطبية الثنائية الأمريكية الغربية في مواجهة الاتحاد السوفيتي، ثم انهيار الأخير في عام 1990، وما لحقه من هيمنة أمريكية منفردة على قمة النظام الدولي، يرتبط أساسًا بحدوث نقلات وتحولات كبرى، سياسيًا واستراتيجيًا في علاقات القوى الرئيسية المتحكمة في حالة الأمن والسلام الدوليين. وهنا يَطرح التساؤل ذاته، إلى أي مدى يمكن أن تؤدي الحرب في أوكرانيا إلى حدوث تغييرات مهمة في النظام الدولي، وفي أي  سياق، ونحو أي اتجاه؟

الشاهد أن روسيا ومعها الصين تناديان بنظام دولي جديد ينهي الإنفراد الأمريكي، ويمنحهما مساحة تأثير ونفوذ في القضايا الدولية، ويجسد رؤاهما في نظام دولي متعدد الأقطاب يقوم على المنافسة السلمية بين الجميع لاسيما الكبار بدون تفرقة، ولا تُفرض فيه صيغة معينة للحكم كما تسعى إلى ذلك بكل قوة الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون تحت شعار نشر الديمقراطية وحقوق الإنسان وفقًا للمدركات الغربية وحدها، ويؤدي إلى الحد من هيمنة الدولار على المعاملات الاقتصادية والتجارية الدولية، وتتعدد فيه مراكز القرار والمجموعات الدولية المختلفة.

ومنذ بدء الحرب في أوكرانيا، فقد ربط الرئيس بوتين بعض أهداف تلك العملية بتغيير النظام الدولي والحد من الهيمنة الأمريكية، جنبًا إلى جنب تحصين الأمن القومي الروسي من خلال وقف تمدد حلف الناتو ناحية الحدود الروسية، ومنع أوكرانيا من الانضمام إلى الناتو، وتثبيت الحياد في سياستها الخارجية، وتحويلها إلى ما يشبه المنطقة العازلة بين روسيا والغرب. ولذا تبدو الحرب في أوكرانيا من المنظور الروسي كخطوة نحو تفكيك المنظومة السياسية والاقتصادية والاستراتيجية التي يتأسس عليها الانفراد الأمريكي بقمة النظام الدولي منذ انهيار الاتحاد السوفيتي نهاية ثمانينات القرن الماضي. ولكنها خطوة ثبت أنها حتى الآن ليست كافية في حد ذاتها لتغيير الأسس التي يقوم عليها الدور الأمريكي المهيمن عالميًا في الاقتصاد والتكنولوجيا المتفوقة، ومرونة السوق، والقدرات العسكرية الفائقة، والنفوذ السياسي والقدرة على بناء التحالفات الدولية ضد روسيا والصين معًا.

رابعًا: عناصر القوة الأمريكية والإزاحة المؤجلة للهيمنة الأمريكية عالميًا
وهكذا فمن الناحية العملية فإن الاستناد إلى نتائج الحرب في أوكرانيا وحدها لإنشاء نظام دولي  جديد وفقًا للأهداف الروسية بعيدة المدى، ويبدو أمرًا متعذرًا؛ فالإنفراد أو الهيمنة الأمريكية على النظام الدولي  الراهن ليست نتاج القدرات الأمريكية الذاتية وحسب، فهناك الكثير من العوامل التي  تدعم هذا الإنفراد على الأقل لعقدين مقبلين، تأتي في مقدمتها أربع عوامل رئيسية:

أولهم، هناك توافق وقبول تام بالنسبة لحلف الناتو الذي تقوده الولايات المتحدة؛ حيث تمكنت إدارة الرئيس بايدن من إنهاء مرحلة الغموض حول دور الحلف وتماسكه، كما كان الوضع في مرحلة الرئيس السابق ترامب، ثم جاءت إدارة الرئيس بايدن لتعيد التماسك للحلف تحت قيادتها، بل تنجح في  توسعة جناحه الشرقي  من خلال قبول فنلندا والسويد عضوين جديدين، والالتزام بإنشاء مقر عسكري دائم جديد في بولندا، والبدء في  إنشاء قوة الرد السريع للناتو بحجم 300000 جندي.

ثانيهم، تلعب التحالفات الوثيقة التي  تبرمها إدارة بايدن مع قوى تشارك الولايات المتحدة الكثير من قيمها وأهدافها وتخوفاتها، وفي  مقدمتها الاتحاد الأوروبي واليابان وكوريا الجنوبية وأستراليا وغيرهم، دورًا مهمًا في التأثير الأمريكي عالميًا ضد مناوئيها ومنافسيها لاسيما الصين روسيا. إذ عبر تلك التحالفات الدولية تستقطب واشنطن الكثير من الموارد السياسية والمعنوية والعسكرية، فضلاً عن بريطانيا الحليف الأوثق والتي تقوم بأدوار عدة بالتنسيق الكامل مع واشنطن لمحاصرة تطلعات الدول المنافسة لهما. وتمتد التحالفات الأمريكية العالمية، منها التاريخي ، ومنها الجديد الصاعد، إلى كل من اليابان والهند وأستراليا وكوريا الجنوبية والمكسيك وكندا. كما أن النفوذ الأمريكي مشهود ومقدر في  العديد من المنظمات الرئيسية في النظام الاقتصادي الدولي الراهن، لاسيما البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ، ومنظمة التجارة العالمية.

ثالثهم، تلعب العملة الأمريكية دورًا بارزًا في  التجارة العالمية وتمثل ما يقرب من 81 في  المائة منها، وتؤثر قرارات البنك الفيدرالي الأمريكي من خلال تحديد قيمة الفائدة دورًا بارزًا ومباشرًا في تحديد القيم المقابلة للدولار من العملات الوطنية لكل دول العالم، بما في ذلك الروبل الروسي  واليوان الصيني  والين الياباني  واليورو الأوروبي. وتوظف واشنطن نظام التحويلات بين البنوك «سويفت» كأحد أدواتها المباشرة في تطبيق ما تفرضه من عقوبات على من تعتبرهم أعداء لها أو دول مارقة أو أشخاص سيئين يجب معاقبتهم وفرض العزلة عليهم ( انظر الجدول رقم 1).


رابعهم، كما تشمل أدوات القوة الأمريكية قدراتها العسكرية الهائلة، وتطورها التكنولوجي الدائم واقتصادها المرن القابل للتوسع في مجالات مختلفة تقليدية وفوق تقليدية. ولديها القدرة على معاقبة الآخرين وعزلهم دوليًا والتأثير على اقتصاداتهم ونمط معيشتهم، بينما تنخفض كثيرًا قدرات الآخرين في معاقبة الولايات المتحدة، وحتى في  حالة اتخاذ قرارات عقابية من قبل أحد القوى الكبرى، كما حدث من قبل الصين التي  حدّت من الواردات الأمريكية وفرضت رسومًا إدارية على بعض أنواع السلع الأمريكية؛ ردًا على العقوبات التجارية والاقتصادية التي اتخذتها واشنطن في  فترة الرئيس السابق ترامب، فتظل تأثيراتها محدودة على الاقتصاد الأمريكي.

كذلك فإن العقوبات التي  اتخذتها روسيا تجاه الدول التي  وصفتها بغير الصديقة مواكبة للحرب في أوكرانيا، كطرد الدبلوماسيين وخفض واردات الغاز لعدد من الدول الأوروبية، وفرض التعامل بالروبل لمن يرغب في الحصول على الغاز الروسي، وإن كانت ذات تأثير جزئي، لكنها تظل أقل بكثير جدًا من تداعيات العقوبات التي تفرضها الولايات المتحدة وحلفاؤها على الدول المناوئة لهم، وفي المقدمة روسيا وإيران وكوريا الشمالية وفنزويلا.

ووفقًا لمعايير القوة العسكرية، لا تزال الولايات المتحدة في المقدمة، وهي القوة الأكبر في العالم، تليها روسيا بفارق محدود، وذلك حسب ترتيب أقوى الجيوش العالمية تبعًا لمؤشر موقع «جلوبال فايرز باور»، والذي يعتمد على أكثر من خمسين مؤشرًا للقوة التقليدية، كالقوة البشرية، والمعدات، والتمويل، ومساحة البلد، والسكان، والموقع. وكلها عوامل تؤثر في  قدرة البلد المحتملة على شن الحرب عبر البر والبحر والجو، أخذًا في الاعتبار أن المؤشر يستبعد القوة النووية في هذا التصنيف. وكلما كان المؤشر أقل كلما كان تصنيف القوة أعلى (انظر الجدول رقم 2).


من ثم يمكن القول إن العوامل الهيكلية للقوة الأمريكية على النحو المُشار إليه، تؤشر إلى أن إزاحتها كليًا عن قيادة النظام الدولي  ليس بالأمر المتاح في المدى القصير أو المتوسط، وأن التعديل الكامل للنظام الدولي الراهن يتطلب تغييرات كبرى من قبل المنافسين الراغبين في وضع قواعد جديدة للنظام الدولي، وعليهم تشكيل مجموعة من العوامل والهياكل والنظم والمؤسسات التي توفر آليات بديلة للآليات التي تدعم الإنفراد الأمريكي، وبحيث توفر مساحة نفوذ دولي لهم يخصم من النفوذ الأمريكي تدريجيًا، وهي عملية تتطلب مساحة زمنية طويلة إلى حد بعيد.

ويلاحظ أن الهياكل البديلة التي تسعى إلى تنشيطها وتقويتها كل من روسيا والصين، ممثلة في التعامل بنظام بديل لتحويل الأموال بين البنوك بعيدًا عن نظام سويفت، وعقد صفقات تجارية بالعملات الوطنية، وتقوية أدوار منظمات إقليمية كالبريكس ومنظمة شنغهاي -حيث تلعب فيهما الصين وروسيا دورا قياديًا- تظل بحاجة إلى المزيد من الوقت لكي  تصبح بالفعل مؤسسات ذات طابع دولي عام، ينافس المؤسسات التي تدعم النفوذ الأمريكي دوليًا.

ويلاحظ أن كل هذه الهياكل والمؤسسات ذات طابع اقتصادي وتنسيقي في بعض القضايا السياسية المشتركة، ولم تتطور إلى مستوى بناء حلف عسكري / أمني ينافس حلف الناتو، الذي يتجه إلى مد نطاق عمله إلى المحيط الهادئ تطبيقًا لاستراتيجية محاصرة الصين التي تعمل عليها الولايات المتحدة وعدد من حلفائها. ونظريًا فمن المحتمل أن تسعى كل من روسيا والصين بمشاركة دول أخرى، وفي مقدمتها كوريا الشمالية، لبناء منظومة عسكرية / أمنية صلبة، وتستقطب عضوية دول أخرى مع مرور الزمن، ومن ثم تسهم في تعديل قواعد النظام الدولي الراهن، وتدعم صيغة التعددية القطبية التي تطالب بها بكين وموسكو تحديدًا.

خامسًا: استراتيجية «الردع المتكامل» الأمريكية
تجسد وثيقة الاستراتيجية الأمريكية التي صدرت في 12 أكتوبر 2022 الأساليب والمنهج الرئيسي  للولايات المتحدة وفقًا لرؤية إدارة الرئيس بايدن في مواجهة كل من الصين وروسيا، وتضمنت الوثيقة مفهوم «الردع المتكامل» باعتباره الاستراتيجية الأمريكية للتعامل مع أي تهديدات، من خلال دمج وتوظيف كل أدوات القوة الأمريكية المادية والمعنوية، مع التأكيد على قدرة الجيش الأمريكي على تنفيذ أي مهام لضمان الريادة الأمريكية سواء بصورة منفردة أو مع الحلفاء، وتنسيق السياسات والجهود معهم بأفضل صورة ممكنة.

وتتضمن الوثيقة عددًا من الأهداف من قبيل تعديل العولمة بما يضمن مصالح العمال الأمريكيين، واحتواء الخصوم، لاسيما الصين من خلال توظيف حقوق الإنسان ودعم الديمقراطية في هونج كونج، ومنع الصين من ضم تايوان التي يصل ناتجها القومي إلى 850 مليار دولار وفقًا لبيانات عام 2020. ومع ذلك تشير الوثيقة إلى إمكانية التعاون مع الصين في  بعض القضايا ذات الطابع الإنساني عالميًا مثل التغير المناخي والصحة العامة العالمية. ويلاحظ أن الوثيقة تتحدث بوضوح عن التدخل في الشئون الداخلية الصينية، وبما يحقق هدف احتواء الصين، ووضعها دائمًا في  وضع الطرف المدافع عن نظام حكمه في مواجهة الضغوط الأمريكية والغربية، وبما يحد من امتداد نفوذ بكين عالميًا.

وفيما يخص احتواء «الإمبريالية الروسية»، فإن الوثيقة الأمريكية تشير إلى روسيا باعتبارها قوة إمبريالية، تستهدف تعديل النظام الدولي القائم على القواعد التي  تحرص عليها الولايات المتحدة لعمل النظام الدولي، ولكن لا تمثل روسيا تحديًا كبيرًا كما هو الحال بالنسبة للصين. وتضمنت الوثيقة أهدافًا محددة كاحتواء ما أسمته الإمبريالية الروسية، والتي تجسدت حسب الوثيقة في الحرب ضد أوكرانيا، والتدخل العسكري المباشر في سوريا، وتدخلات أخرى في دول أسيا الوسطى المجاورة لها، بالإضافة إلى التدخل في العملية الانتخابية الأمريكية عام 2016.

وأوضحت الوثيقة ثلاثة أساليب للحد من «الإمبريالية الروسية»: أولها، الدعم المستمر لأوكرانيا سياسيًا، وعسكريًا، واقتصاديًا؛ بغرض تحويل الحرب إلى فشل استراتيجي لروسيا، وثانيها، استنزاف الاقتصاد الروسي وثالثها، منع روسيا من استخدام الأسلحة النووية أو التهديد بها. ولم تُشر الوثيقة إلى طبيعة الرد الأمريكي إذا ما استخدمت روسيا بالفعل سلاحًا نوويًا تكتيكيًا في أوكرانيا، ما يعكس الحرص على اتباع سياسة الغموض الاستراتيجي التي تترك الخصوم في حالة من الحيرة، وهو الأمر ذاته بالنسبة لطبيعة الدعم الذي يمكن أن تقدمه الولايات المتحدة لتايوان إذا ما قررت الصين القيام بعمل عسكري بهدف توحيد الجزيرة مع البر الرئيسي.

وقد نال الشرق الأوسط حيزًا من التفكير الاستراتيجي الأمريكي كما أوضحته الوثيقة، شمل: تعزيز الشراكات مع الدول التي «تشترك في النظام الدولي القائم على القواعد» أي  التي  تؤمن بمنظومة قيم الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، وحماية حرية الملاحة في الممرات المائية الإقليمية، والحد من التوترات الإقليمية من خلال الدبلوماسية، ودفع التكامل الإقليمي، وتعزيز حقوق الإنسان، وتعميق علاقات إسرائيل مع الدول العربية، والالتزام بحل الدولتين للصراع العربي الإسرائيلي، ولكن دون تحديد وسائل محددة لتحقيق ذلك الهدف.

وفي سياق سياسة الولايات المتحدة للحد من علاقات التعاون والشراكة الاستراتيجية بين الصين وروسيا، وإيجاد فرقة بينهما وتعميقها إن أمكن، وإقناع بكين بعدم مساندة روسيا في حربها في أوكرانيا، جاءت قمة الرئيسين الأمريكي بايدن، والصيني تشي في إندونيسيا بطلب أمريكي وذلك على هامش قمة دول مجموعة العشرين التي عُقدت في  يوم 14 نوفمبر بهدف منع الانزلاق إلى صراع مفتوح بين البلدين، وتنظيم المنافسة بينهما في المجالات المختلفة، وتحديد نقاط توافقية تهم مصلحتهما الثنائية بالدرجة الأولى، ونقاط أخرى تتوافق مع المصالح الدولية العامة كالتعاون في مجال التكيف مع التغيرات المناخية والحد من الانبعاثات المسببة لارتفاع درجة حرارة الأرض، والصحة العالمية.

وتظهر نتائج القمة أن الطرفين اتفقا على تهدئة التوترات بينهما لما لذلك من نتائج شديدة الوطأة عليهما وعلى الاقتصاد الدولي في آن واحد، وعلى أمن منطقة المحيط الهادئ مباشرة، وإدانة استخدام أو التهديد باستخدام الأسلحة النووية في أوكرانيا في إشارة إلى روسيا، مع تأييد وقف القتال والتفاوض، والدعوة إلى مراعاة الأمن الغذائي العالمي على أن تستمر المباحثات بين وزيري خارجية البلدين في بكين لاحقًا، للتوافق على المزيد من تفاصيل التحرك المقبل.

ولكن ظلت قضية تايوان نقطة خلافية؛ حيث أصر الرئيس بايدن على تكرار الموقف الضبابي المعهود، والمتضمن التزامًا نظريًا بسياسة صين واحدة، وفي الوقت ذاته رفض توحيدها مع البر الصيني، والإصرار على الدفاع عنها ورفع قدراتها العسكرية، فيما تتمسك الصين بأحقية الوحدة مع تايوان. ويبدو أنه تم تجنيب تلك القضية في المدى المنظور من أن تكون بؤرة انفجارية، مع احتفاظ كل طرف برؤيته الخاصة والاتفاق على الاختلاف حولها.

سادسًا: الصين وقيادة العالم المؤجلة
التقييم السائد فيما يخص الصين أنها تواجه مرحلة حرجة في علاقتها مع الولايات المتحدة؛ نظرًا لما تمارسه واشنطن بالفعل من سياسات تكبح الصعود التنموي الصيني، وعمليات الاحتواء والحصار العسكري بالمشاركة مع دول كبرى في المحيط الهادي وشرق آسيا، الأمر الذي يدفع الصين إلى الاعتماد أكثر على نفسها لاسيما في قطاع التكنولوجيا المتقدمة، و»الاستعداد للرياح العاتية والأمواج المتلاطمة وحتى العواصف الخطيرة»، وفقًا لتعبيرات الرئيس الصيني في ختام أعمال المؤتمر العشرين للحزب الشيوعي الصيني، الذي عُقد في 16 أكتوبر 2022. وهي عبارات توحي بالاستعداد الجدي لعمل عسكري أو مواجهات كبرى في المستقبل، وعلى الأقل الاستعداد الجاد لأي تحدي  يستهدف أمن الصين القومي.

وتصر الصين بحسم على تحقيق أكبر مستوى ممكن من القوة الاقتصادية والعسكرية في المدى الزمني المنظور، وإعداد العالم للتكيف مع هذا القدر من الصعود مع تجنب التورط في مواجهات عسكرية حتى بالنسبة لتايوان التي تمثل لها قيمة استراتيجية وقومية كبرى. وهو ما عبر عنه الرئيس «تشي» في مؤتمر الحزب العشرين بقوله إن بلاده «ستظل حازمة في اتباع سياسة خارجية مستقلة قائمة على السلام بما يضمن عدم السعي إلى الهيمنة أو التوسع.

وعلى الرغم من اتفاق الصين  مع روسيا بشأن ضرورة تعديل مقومات النظام الدولي الراهن، والحد من الهيمنة الأمريكية وإفساح المجال أمام تعددية قطبية، إلا أنها تؤكد على ألا نية لديها لتحدي الدور القيادي  الأمريكي عالميًا في الوقت الراهن على الأقل. ومن الأسباب الجوهرية التي تدفع بكين إلى ضبط العلاقة مع الولايات المتحدة، وخفض مستوى التوتر فيها، الحجم الكبير من التشابك الاقتصادي والتجاري مع الولايات المتحدة والدول الأوروبية الحليفة لها. فبينما تصل التجارة مع روسيا إلى 120 مليار دولار، ويستهدف الطرفان الوصول بها إلى 200 مليار دولار بحلول عام 2024، فإن حجم التبادل التجاري بين الصين والولايات المتحدة يصل إلى 555 مليار وفقًا لبيانات العام 2020، ومع الدول الأوروبية يصل إلى 586 مليار دولار، وبالتالي يبدو مستحيلاً بالنسبة للصين أن تضحي بهذا الحجم الهائل من التجارة مع واشنطن وحلفائها الأوروبيين. كما أن الصين تمتلك سندات الخزانة الأمريكية بما يقرب من 800 مليار دولار، وبالتالي يمكن أن تخضع للعقوبات في  حال وصلت العلاقات إلى مرحلة صدام مباشر.

ويلاحظ أيضًا أن بكين تدرك أن ميزان القوى العسكرية هو لصالح الولايات المتحدة، فضلاً عن أن تخلي الصين عن سياسة توحيد تايوان سلمًيا سيؤدي إلى مردود سياسي ومعنوي واقتصادي سيضرب في الصميم الصورة العامة التي تحرص عليها الصين دوليًا، كدولة تسعى للسلام والتنمية ولديها مسئوليات تجاه استقرار العالم وأمنه.

من مجمل ما سبق يمكن القول، إن مواقف القوى الثلاثة الأكبر في النظام الدولي الراهن تشير إلى ثلاث نتائج رئيسية: أولها، إن مستقبل النظام الدولي يُعد مرهونًا جزئيًا بنتائج الحرب في أوكرانيا، والطريقة التي ستنتهي بها، وحجم المكاسب إن وجدت التي ستحصل عليها روسيا، ما سيشكل محددات رئيسية لطبيعة الدور الروسي المحتمل في المرحلة المقبلة كقوة عظمى ذات تأثير مباشر على قواعد النظام الدولي، وبما يؤدي إلى تعزيز مبدأ التعددية القطبية. ثانيها، إن إزاحة الولايات المتحدة عن موقع القيادة للنظام الدولي يتطلب الكثير من الجهود، ليس فقط من قبل الصين وروسيا، بل من عدد كبير من دول العالم تتفق معهما على ضرورة تغيير القواعد التي يبني عليها النظام الدولي سياسيًا واقتصاديًا وتجاريًا ومؤسسيًا. ثالثها، إن القدرات التي تتمتع بها الولايات المتحدة، تمكنها من مواجهة واحتواء محاولات وعمليات تعديل قواعد النظام الدولي على المدى المتوسط، أما على المدى الأبعد فقد يتغير الأمر بدرجة ما لا سيما إن استمرار الصعود الصيني اقتصاديًا وعسكريًا، وترسخ  قدر من التحالف الوثيق مع روسيا حال خروجها منتصرة بشكل أو بآخر.

ومن ثم فإن الاتجاه إلى تعديل كبير في هيكل النظام الدولي يتطلب جهودًا متعددة، ومساحة زمنية طويلة نسبيًا، ومشاركة أكبر عدد ممكن من الدول، مع الأخذ في الاعتبار أن الولايات المتحدة لن تقف مكتوفة الأيدي، وستعمل على تعطيل بناء تلك الآليات البديلة، أو خفض تأثيراتها إلى أقل قدر ممكن.