بكر السباتين يكتب:

سيناريوهات الحرب الأوكرانية 2023 ونظرية البجعة السوداء

تفسير مخرجات الحرب الأوكرانية مهما تقلبت في عقول الباحثين من أصحاب الاختصاص لا بد والتعامل معها وفق نظرية البجعة السوداء التي تُشير إلى صعوبة التنبؤ بالأحداث المفاجئة.

ويمكن اختزال هذه النظرية في أنه يوجد من المفاجآت ما يقلب نتائج التوقعات المألوفة حتى القائمة منها على التفكير خارج الصندوق، كما هو حال وجود بجعة سوداء بين أسراب البجع الأبيض خلافاً لكل التوقعات؛ وذلك لأن عقلنا الجمعي (بخاصة الغربي الاستعلائي) يعمل بطريقة بقعة الضوء حيث يركّز على الأمور الظاهرة ويغفل عن أخرى دون أن يبذل جهداً في التنقيب داخل منطقة الظل.

وهي نتيجة توصل إليها الباحث الأمريكي من أصول لبنانية نسيم نقولا في كتابه الذي صدرعام 2007 بعنوان البجعة السوداء، وطرح هجمات 11 سبتمبر 2001 كمثال واقعي عليها.

وقبل الولوج إلى صلب الموضوع الأوكراني، تجدر الإشارة إلى أنه تأريخيا تعود جذور المصطلح “البجعة السوداء” إلى القرن 17 حينما كان يَفترضُ الأوروبيون أنَّ جميع البجع أبيض؛ وعليه ترمزُ عبارة «بجعة سوداء» لشيء كان من المستحيل حصوله.

ويبدو أن هذه البجعة جاءت لتفرض نفسها على المشهد الأوروبي خلافاً لما كان سائداً قبل نشوب الحرب الأوكرانية بفبراير 2022 في أن السيناريو بدأ بالتوريط الغربي لروسيا في هذه الحرب الضروس لاستنزاف قوتها وتحويلها إلى دولة مقسمة وعاجزة سياسياً واقتصادياً عن مواجهة الأزمات والخطوب. وكان بوسع أوروبا منع ذلك بالاستجابة للشروط الروسية في ضمان أمنها برفض قبولِ أوكرانيا الدخولِ إلى الناتو ومناقشة أمن أوروبا الشامل؛ بل لجأ الغرب إلى التصعيد من وحي أنه يضمن النتائج وأن البجع كله أبيض، فبادر إلى التصعيد من خلال دعم أوكرانيا بالسلاح وإيهامها بالقدرة على التصدي لروسيا بأقل الخسائر، إلى جانب تكبيل روسيا بقيود لا سبيل للفكاك منها، مثل حرمانها من نظام سويفت في فبراير 2022 في إطار تشديد العقوبات الغربية المالية على روسيا رداً على غزوها أوكرانيا، وفرض قيود على البنك المركزي الروسي للحد من قدرته على دعم الروبل

ناهيك عن فرض سقف على أسعار الطاقة الروسية بدءاً بالنفط في 4 ديسمبر 2022 حيث وصل إلى 67 دولاراً وهو أقل من تكلفة إنتاجه، بالإضافة إلى الغاز الروسي وفق آخر اجتماع أوروبي في بروكسيل في 14 ديسمبر العام الفائت.. حال تجاوز السعر 275 يورو (283،9 دولاراً) لكل ميغاوات/ ساعة لمدة أسبوعين، وكان الفارق بين سعر الغاز المتداول عبر منصة “تي تي إف” وأسعار الغاز الطبيعي المسال العالمية 58 يورو أو أعلى.. كل ذلك جاء بعد اتفاق الاتحاد الأوروبي ومجموعة السبع وأستراليا على آلية قد تحدّ من واردات روسيا لتمويل حربها بأوكرانيا.

ورغم انقلاب السحر على الساحر ووصول التداعيات مشارفِ الحرب النووية التكتيكية توطئة لحرب عالمية ثالثة وشيكة؛ يصر الغرب على تقديم الدعم العسكري المستمر لأوكرانيا، وكان آخرها دعم الجيش الأوكراني بصواريخ الدفاع الجوي باتريوت سعياً لإخراج روسيا من منطقة التاثير والمركز إلى منطقة الهامش والتبعية.

ولكن ما حدث هو العكس تماماً.. فالبنية التحتية الأوكرانية تعرضت للتدمير بنسب قياسية وتم احتلال اجزاء كبيرة من شرق البلاد، وفي 30 سبتمبر 2022 وقع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين وثائق ضم مقاطعات لوغانسك ودونيتسك وزابوروجيا وخيرسون إلى روسيا مع رؤساء هذه المقاطعات الأربع التي كانت تحت السيطرة الأوكرانية.

وتبلغ مساحة هذه المقاطعات 110 آلاف كيلومتر مربع ،يضاف اليها مقاطعة القرم التي سبق لروسيا أن ضمتها عام 2014.

وفي سياق الرد الدفاعي الروسي ضد الحراك الغربي المؤازر لأوكرانيا، استنهض الدب الروسي كل طاقاته التعبوية العسكرية والاقتصادية وتحالفاته في إطار بريكس وخارجها ليخرج من تحت الرماد أشد عنفواناً.

أما كيف انقلب السحر على الساحر فقد تجلى بالتضخم الذي أصاب دول الاتحاد الأوروبي وقد أوشكت على الدخول في ركود اقتصادي خانق لسببين: أولاً:- مخرجات أزمة كورونا التي كبدت دول العالم خسائر طائلة وتسببت بانكماش نسبي لاقتصاديات دول الاتحاد الأوروبي.

ثانياً:- الدعم الغربي المفتوح والمكلف لأوكرانيا في حرب بدأت ولا يبدو أنها ستتوقف في غضون العام الجديد الجاري 2023.. لا بل أن تماسك الناتو بات يواجه ثورة شك أوروبية تجاه الحليف الأمريكي الذي حرم أوروبا من امتيازات الطاقة الروسية الرخيصة للاعتماد على بدائل أمريكية باسعار باهضة أو فرض سقف لأسعار النفط الروسي والذي لم يقدم لأوروبا الحل المجدي.

ولم يسعف ذلك البديل، دولة عظمى (خارج إطار الاتحاد الأوروبي) مثل بريطانيا من إعادة الاقتصاد البريطاني إلى طريق التنمية المستدامة بنفس الكفاءة بعد انتفال البلاد من حالة التضخم إلى الركود وانخفاض معدل المعيشة إلى 7% العام الماضي 2022 واحتمال وصولها إلى 2% هذا العام 2023 مع تفاقمها في الاعوام المقبلة الثمانية؛ ما أدى إلى إجراءات إصلاحية غير معتادة بعيداً عن رفع الفائدة او خفضها من قبل البنك المركزي لعدم جدوى ذلك، مثل خفض فاتورة الدعم الحكومي للحياة المعيشية وخفض الميزانية النسبي.

فيما تنكر الحكومة البريطانية، كسائر دول الاتحاد الأوروبي الداعمة لأوكرانيا، بأنه من بين أسباب التضخم، ذلك الدعم البريطاني المفتوح لكييف.. أي أنها ستواصل الدعم أسوة بأوروبا وتوافقاً مع تصريحات الرئيس الفرنسي ميكرون الأخيرة بداية هذا العام 2023، مقابل وعود أمريكية بدعم الجيش الأوكراني بمنظومة بتريوت للدفاع الجوي.

أي أن الحرب من الجانب الغربي سيطول أمدها وفق رؤية عمياء دون الاكتراث لتبعاتها المحلية.

فماذا تحتفظ روسيا من أوراق استراتيجة من شأنها أن تمكن الدب الروسي من الانطلاق نحو الخيار المطلوب في هذا الشتاء الطويل الذي تحاول أوكرانيا الخروج منه بمساعدة الغرب، وتحقيقه في وقت محدد وبدون متاهات؟

يمكن إجمال ذلك فيما يلي:

أولاً: الوهن الشديد الذي أصاب الخصم الأوكراني حيث بات يفتقر إلى الزخم البشري نتيجة الكم الهائل من الضحايا البشرية في صفوف جيشه ممن أرغموا على الخدمة الإلزامية دون دراسة لمراكز القوى في البلاد (كما فعلت روسيا) وتوزيع الموارد البشرية عليها وفق المتاح، للحفاظ على دورةِ تنميةٍ طارئةٍ يكون بوسعها دعم المجهود العسكري لوجستياً بالأسلحة المصنعة أو المجمعة محلياً.

والنتيجة كانت توقف معظم هذه المصانع إذا لم يكن بسبب وقف إمدادات الطاقة؛ فبسبب نقص الموارد البشرية التشغيلية.

وزاد الطين بلة إعلان الجيش الأوكراني التعبئة العامة لتعويض النقص البشري في الجيش في حرب باتت تستنزف الوقت والطاقات دون حساب.

فهذا بدوره سيأخذ وقتاً طويلاً لتأهيل الملتحقين بالقوات المسلحة وتدريبهم على الأسلحة المتطورة التي زود بها الغرب أوكرانيا.. وكل ذلك يصب في صالح الروس الذين جهزوا أنفسهم لوجستياً لمراحل حرب طويلة.

ونستطيع الآن الحديث عن سيناريو المواجهة الروسية المحتمل الذي وضعه الروس وفق تقديرات الخبراء لإرغام الأوكرانيين على الاستماع ل”صوت العقل” والقبول بالشروط الروسية في أية مفاوضات ممكنة، وهي على النحو التالي:

بعد قيام الروس بحشد 300 ألف جندي كانوا قيد التدريب، بعثت القيادة العسكرية نصفهم إلى الجبهات؛ لتحصين الحدود ونجحوا في ذلك من خلال إفشالهم لأي هجوم أوكراني جديد.

فيما ينتظر اشتراك البقية في هجوم كثيف بغية استكمال تحرير الاقاليم التي ضمت إلى روسيا بالإضافة لاحتلال بعض المدن في العمق الأوكراني مثل خاركيف.

وهذا من شأنه قلب كل الموازين؛ بتحصين الحدود الروسية الجديدة واستنزاف أوكرانيا وداعميها وإرعامهم على لجلوس إلى طاولة المفاوضات.

الرهانات في الشان الأوكراني ما لبثت عمياء وفق نظرية البجعة السوداء، واللكمة الأخيرة تنتظر من ينهار اولاً لإجهاز الأقوى على المهزوم بالضربة القاضية، فلقلقة البجعة السوداء تعلن عن البديل النووي التكتيكي أو المفاوضات شبه المستحيلة. الله يستر!