عبدالكريم مباتة يكتب لـ(اليوم الثامن):
من صندوق القداسة إلى فضاء الحداثة
اللغة ليست فقط أداة تواصل و كلام وتشدق وتزاويق لفظية ووسيلة إدهاش للسّامع، بل هي مستودع المعرفة ومرآة المجتمع والحاملة له، والصورة المُقَدِّمة لأشكاله وأفكاره، و الموافِقة لمكنوناته وجوهره، والحق أن نقول "اللسان" لا اللغة فهو التعبير العلمي والتقني الأصح والأدق.
اللسان هو وجه الذكاء المجتمعي، وكذلك هو الفاضح لضعفه أو تخلفه، فالعلاقة بين اللغة والمجتمع أصبحت حقيقة علمية اليوم، وعلم الإجتماع اللغوي أو علم اللغة الإجتماعي، "لا يزال المصطلح العربي مهتزا!" منذ بداياته مع أنطوان مييه، لا يزال يؤكد وجود العلاقة الطردية بين المجتمع ولسانه، فكل التغيرات في المجتمع تنعكس على لسانه، وتلك التغيرات في اللسان إذا جُعلت لها قواعد ودخلت في المنظومة اللسانية كجزء طبيعي ستؤثر بدورها في المنظومة الإجتماعية سلوكا وفكرا.
كلما كان المجتمع منتجا للمعرفة تطور لسانه بشكل طردي، لكن كلما استنكف عن تطوير لغته بما يُمَكنه من دخول عصره ومواجهة التطور الطبيعي للعقل الإنساني الحضاري، حَكَم على لغته ومجتمعه وعقله بالإنعزال ثم الإنحسار ثم التبدد، والواقع يظهر لنا كل يوم دلائل مرعبة عن موت اللغات و اندثارها، حيث يقدم عالم اللسانيات كلود حجاج دراسات مرعبة وأرقام مخيفة تُظهر موت واندثار اللغات بمعدل لسان واحد كل أسبوعين، يعني خمسة وعشرين (25) لسانا كل سنة، العالم اليوم يحوي خمسة آلاف( 5000) لسان حي ، ولكن باستمرار هذا النزيف اللساني سيندثر نصفها بعد قرن من الزمن، لتصبح مجرد رموز مجهولة بعد أن كانت حية تتداولها الألسن والعقول.
هناك بُعد آخر لحركة العقل الإنساني، فالمعرفة المتفجرة داخله وجنوحه نحو التطور والبحث والتميز قد يدفعه لإنتاج المعرفة حتى بلغة غيره، فالمتعلم قد لا يجد في لغته ما يُمَكنه من التعبير عن معرفته المتفجرة لأسباب كثيرة أشهرها تخلُّف المجتمع نفسه عن ركب الحضارة، أو تحجر في لغته ناجم عن انعزالها في طبقة مجتمعية أو عدم قدرة المجتمع على استعمالها خارج بيئة تواصلية محددة، مما يجعلها أقل تأثيرا وانتشارا، وهذا ما يحصل للغة العربية، فهي اليوم لغة نخبة وليست لغة شارع، فقد نزعت منها اللهجات الدارجة المنبثقة عنها صفة العفوية التواصلية، وهذا ما عزلها وجعلها ترتفع في المجتمع لتكون حالة تواصلية لا لسان مجتمع دارج على المستوى القاعدي من التواصل.
العالم يتجدد ويتوسع في كل أبعاده، ولن تجد في أي لغة كفاية من الدوال لمواجهة جديد المدلولات المنبثقة عن مختلف العلوم، ولا زلنا لم نفتح الفصل الخاص بأداة تواصلنا المقدسة ألا وهي العربية، ونواصل الهروب إلى الأمام تارة بمواجهة المشتغلين باللغة، الذين يحاولون إيجاد حلول وإبداعات لتطوير العربية واتهامهم في نواياهم، وتارة بدفع تعليم اللغة العربية نحو الإغراق في الكلاسيكية والإنبهار بما لم يعد اليوم ذو فائدة تواصلية ولا حتى فائدة جمالية، فما فائدة اثنتي عشرة مليون مفردة ولا زلنا نعاني في إيجاد أسماء لمخترعات جديدة في مختلف العلوم، وما فائدة تعليم الطفل الشعر الجاهلي والبحتري سنوات ليكتشف بعد سنوات أن هناك طبقات من العربية الحديثة لا يعلم عنها شيئا.
إن مهمة العربي اليوم هي إخراج لغته من صندوق القداسة إلى فضاء الحداثة الرحب، ودفعها نحو مواجهة قدرها المحتوم عليها، ألا وهو التأقلم والتحول والتَّغيُّر مع عصرها، وهذا بتبني كل الوسائل للوصول لمبتغاها، والإبتعاد عن اتهام كل جديد بالغدر والتعدي على الموروث.
الإنسان يعيش على تجريد عالمه، وإذا فقد هذه المَلَكة فلن يستطيع استيعابه ولا فهمه ولا التأثير فيه، فالشيء الذي لا نستطيع تسميته لا يمكن أن نعطيه معاني عقلية ولن يتعدى كونه صورة خارجة عنا غريبة على عقولنا، والعقل العربي اليوم إذا ما واجه منتجات حضارة عصره الدقيقة سيجد مشاكل كبيرة في استيعاب الكم الهائل من المعرفة داخل لغته، ليس لضعف في العربية، بل لتوقف الماكينة اللغوية عنده وتبدد الحيوية فيها، والتي تسهر على دينامية اللغة الداخلية، تلك الدينامية التي يمكن تسميتها تبسيطا: الإجتهاد اللغوي.
إن حجم التطوير في اللغة الصينية الذي حمله أبناءها، يكاد يكون خرافيا، فرق عظيم بين صينية سنة 1900 وصينية اليوم، ولا أحد من أبنائها خرج ليقول أنتم تقتلون الصينية ولغة الأجداد، لأنهم كانوا يعلمون أنهم إن لم يطوروها ويبسطوها كتابة وقواعدا، فلن تنتشر أبدا وسيأنف الكثيرون من تعلمها.
من يتعلم الصينية من غير الصينيين يظن أنه يتكلمها كما كان يفعل أبناءها قبل قرن من الزمن، لكنه لو بحث سيجد أن الصينيين فعلوا في لغتهم ما يستنكف العربي على فعله، لاعتبار وحيد وهو الدين، فالعربية بعد أن أصبحت حاملة للوحي، جعلها أبناءها مقدسة، وكل تغيير فيها سيُرى وكأنه تغيير في الدين وقتل للقرآن وهذا وهم يروج له فقط من لا يعي حقا رهانات العصر اللغوية والمعرفية، ولا الأخطار التي تُحدق باللغة العربية والناجمة عن التحولات الحضارية والتغيرات الطبيعية داخل المجتمعات العربية.
البعض من المتخوفين من التغيير المتعصبين للجمود، لا يرون إلا الخرافة في التغيير ألا وهي القطيعة، والعقل الراجح يعلم أن لا وجود للقطيعة مهما ادعى المدعون ذلك، ومهما طلبوا ذلك أيضا، فالقطيعة كما دعى لها البعض كالكاتب شريف الشواشي والذي كتب كتابا عنوانه "لتحيا اللغة العربية يسقط سيبويه"، لا يمكن تحقيقها، فلا يمكن أبدا البناء على فراغ، ولكن المشكلة أعمق من أن يكون حلها هو تغيير النحو أو على الأقل تبسيطه، و التشخيص الذي وضعه الشواشي تشخيص مهم لا يمكن التغافل عنه، ولكن اللغة العربية تختص وحدها بتحولها إلى جزء عضوي ملتصق بجسد الهوية يكاد يكون وجهها الآخر، لذا فالأزمة اللغوية تتوسع إلى الهوية، وقد نشر هذه المعضلة الكاتب الدكتور أحمد درويش في كتابه إنقاذ اللغة إنقاذ الهوية" المطبوع سنة 2018، وإن كان الكتاب اهتم بعرض المشكلة والتوسيع في طرح الأدلة الكثيرة على عظمة العربية وديناميتها وقدرتها على استيعاب تغيرات عصرها وضرورات التطور، إلا أنه لم يطرح حلولا تطبيقية للأزمة العضوية التي تتخبط فيها اللغة العربية على كل المستويات، من انعزالها عن التداول العفوي إلى بيئتها التعليمية التي لا تزال متحجرة ولا تخدم مستقبلها من ناحية التوسع والتجذر اكثر في نسيج المجتمع.
إن الدعوة لتطوير اللغة العربية وتبسيطها وأقلمتها مع عصرها ليست جديدة ولن تتوقف أبدا، فبعد أن أطلقها النحوي العظيم ابن مضاء القرطبي حينما صرخ في وجه النحاة من خلال كتابه " الرد على النُحاة" وصولا إلى السجال بين أهل اللغة في القرن العشرين من أمثال طه حسين والرافعي والعقاد، ومتابعات اللغوي الماهر شوقي ضيف، الذي دعى إلى تبسيط النحو، كلها كانت ولا تزال حركات صحية تخدم مستقبل اللغة العربية لا يجب الخوف منها، بل يجب دفع عجلة التغيير وتشجيع الأبحاث اللغوية الإستشرافية، وعدم نصب محاكم تفتيش للمبدعين في اللغة وتشجيعهم على اجتياز حاجز القداسة والجمود إلى رحابة الإبداع واستكشاف الممكن من اللغة. وأختم بجملة لطه حسين من كتابه المهم مستقبل الثقافة في مصر، "إن اللغة العربية ليست ملكا لرجال الدين، ولكنَّها ملك للذين يتكلمونها جميعا من الأمم والأجيال"، جملة تدعونا لعدم مصادرة اللغة ورهن المستقبل لخدمة الماضي.