د. علوي عمر بن فريد يكتب لـ(اليوم الثامن):

الشعر الفصيح والشعبي أيهما الأكثر حضورا وانتشارا؟!

الشِّعر فن أدبي جميل تميز به العرب في جاهليتهم فكان أقوى وسائل الإعلام لديهم، وذلك عندما كانت الأمية وغياب التدوين ولأن العرب أهل بلاغة وفصاحة فقد أبدعوا في الارتقاء بالشعر لغةً، ووزناً، وألحاناً شجية، ووظفوه ببراعة في التعبير عن شجاعتهم وكرمهم، ووسيلة إظهار بيانهم وفصاحتهم، حتى أصبح سجل حياتهم وذاكرة أيامهم، ومصدر سيرهم وتواريخهم؛ ولهذا قيل: «الشعر ديوان العرب».

وعندما بدأت الدولة العباسية بالضعف، وتراجعت الحالة العلمية، ودخلت الأمة في عصر الانحطاط السياسي والثقافي، وضعف التدوين أو تلاشى في الجزيرة العربية عاد عرب الجزيرة إلى ديوانهم الأول وهو الشعر، فسجلوا فيه مشاعرهم وأخبارهم، لكن بعد أن ضعفت اللغة الفصحى وفشا فيهم اللحن، وظهر ما يسمى بلغة العامة؛ ومن هنا ظهر الشعر العامي أو النبطي فرعاً عن الشعر الفصيح.. وكما أبدع شعراء العرب الأوائل في سبك الشعر وبلاغته أبدع العرب المتأخرون في الشعر العامي. 

وقال الشاعر والإعلامي محمد بن سبيّل: لا أحد يستطيع أن ينكر أن الشعر الفصيح هو الأساس والأكثر أنتشارا وفهماً من الشعر الشعبي بالدول العربية والاسلامية ولكن بما أن اللغة او اللهجة الدارجة هي الشعبية أصبح الشعر النبطي أو الشعبي أكثر انتشارا وأقرب إلى ذائقة الناس وملامسة مشاعرهم خاصة بدول الخليج وبعض الدول العربية .

"وعبّر الشاعر رمضان المنتشري وقال : بكل أمانة فإن الشِّعر الشعبي هو المتداول الآن وبكل قوة، وإن كان الفصيح هو الأساس ومع كل التقدير والاحترام للشعراء الفصيح لكن يبقى الشِّعر الشعبي هو لوننا القريب منّا، والمتعارف عليه فيما بيننا، وكذلك الأقرب للنفس، والفهم لها، الشِّعر الشعبي أصبح هو المتسيد للساحة، وهو ما نتنفسه والأقرب إلى القلب ".

والشَّعر الشعبي لطالما مثَّل ذاكرة المكان، وذاكرة دول الخليج والجزيرة العربية  بشكل كبير فهو الوعاء الذي يحفظ الذاكرة،  ويسمى الشعر الشعبي أو العامي أو النبطي، وهو شِعر محكي وسهل الحفظ، وسهل التداول، ولطالما كان العرب يعتزون بمنتجهم الشعري اللي يعتبر «ديوان العرب» .

وإن كانت هناك مقارنة لا تكون مقارنة عادلة بين الشِّعر باللغة الفصحى وبين الشِّعر الشعبي حيث  أن الشِّعر الشعبي يحظى بشعبية كبيرة تفوق شِعر الفصحى .

وسنورد في هذا المقال  نموذجا لشاعرين كبيرين من شبوة كمثال حي لانتشار قصائدهما في ربوع الجنوب العربي وانحاء الجزيرة العربية هما : السيد محسن البغدادي والشاعر محمد بن صالح باسرده ، وقد تبنى كل واحد منهما تيارا سياسيا يتعارض مع 

الآ خر حيث تبنى السيد محسن وجهة نظر (الجبهة القومية سابقا أو الحزب الاشتراكي لاحقا ) وتبنى باسرده القوى الوطنية المعارضة لتفرد الجبهة القومية بالسلطة التي انفردت بالسلطة في الجنوب !!

وفيما يلي نورد مساجلة قصيرة  بين الشاعرين :

باسرده :

أنا معي نخلة ومستبشر بها

منتوجها أول سنه أربع خُبـــر

التمر حالي تمرها أول سنه

تالي تغير وأنقلب حامض ومُر

وقد أجاب على هذا البيت الشاعر السيد محسن بالقول :

حيشاء على الرحمن ما سقيتهــا

وشقاتها من فوق ستعشر نفـر

لا تقاسموا بتجيك خوصه واحده

بايشهدون الناس في بحراً وبر

وهنا ينكر السيد محسن على الشاعر باسرده ما أدعاه في بيتيه الاولين وخصوصاً حول الثورة فالثورة وهي ـ التي رُمز إليها بالسبيه أي غرسة النخيل ليست ملكاً للشاعر أو جبهة التحرير تحديداً وإنما هي ملكاً لكل من أسقاها وعمل من أجلها وهم كثير ويزيد عددهم على الستة عشر فصلاً كما يقول .

ثانيا : سنورد نموذجا آخر للشاعر الجنوبي الكبير أحمد سعيد أمسعيدي  قالها عقب احتلال الجنوب عام 94، عندما حضر إلى شقرة في محافظة أبين الشيخ عبدالله بن حسين الأحمر وعلي محسن ومعظم قادة معركة الغزو وحرص الشيخ طارق الفضلي على دعوة كبار شعراء أبين وكان بينهم الشاعر الكبير أحمد سعيد أمسعيدي وحين جاء دوره وقف أمام الميكرفون قابضا عصاه التي يتعكز عليها في السير والوقوف وقال:

يا بيت لحمر قر ماشي لك مفر

من خذ ملاح الناس با يعطي ملاح

أنته مسلح بالبنادق والشفر

واحنا علينا حظر ممنوع السلاح

هبت نجوم الخير ذي فيها امطر

ما باقي الا النجم ذي فيه الرياح

لا انته تباني سامحك في ما جرى 

والله ما سامح ولا تبصر سماح

 

عندها ضج الحاضرون فقالوا له: كيف سويت بنا يا مسعيدي لحنا لباك ترحب بالضيوف.!!

فقال لهم كلمته:

والله ما طاعني امهاجس ومشى..ورفض ان يرحب بالغزاة ...

وفي الشأن العربي سنورد نماذج قصيرة من الشعر الحديث لكبار الشعراء العرب  حيث يقول نزار قباني :

متى يعلنون وفاة العرب ؟

أنا منذ خمسينَ عاما،

 أراقبُ حال العربْ.. 

وهم يرعدونَ، ولايمُطرونْ…

 وهم يدخلون الحروب، ولايخرجونْ…

 وهم يعلِكونَ جلود البلاغةِ عَلْكا ولا يهضمونْ

بعد أن عقد الريحاني الكبير تلك المقارنة بين الشعر والسياسة، أو بالأحرى بين العاطفة والعقل، مضى في مذكراته ليصف ميول العراقيين فقال ساخراً :

«ليس في أمم الأرض على ما أظن من يهتم بالسياسة اهتمام الأمة العربية، وليس في الأقطار العربية كلها من يشغف بالسياسة شغف العراقيين. في مدينة بغداد مثلاً ثلاثمائة مقهى، وفي كل مقهى عشرون سياسياً على الأقل !!هذا الشغف العراقي بالسياسة ليس بجديد. إنه جزء من الاتجاه العقلاني الفكري للعراقيين  ألم يقل الخبراء بأن المصريين يكتبون واللبنانيين ينشرون والعراقيين يقرأون ؟؟!!!

والشاعر احمد مطر من رواد  الشعر السياسي في العصر الحديث

و شعره سلس ومفهوم لأنه يتكلم الى الشعب المقهور عن الشعب المقموع ومن ذلك :

نحن الوطن

إن لم يكن بنا كريماً آمناً

ولم يكن محترماً

ولم يكن حُراً

فلا عشنا.. ولا عاش الوطن

هذه الرسالة لكل من دعسوا شعوبهم بإسم الوطن، اي وطن؟ الوطن-المزرعة على مقاسهم

أكثَرُ الأشياءِ في بَلدَتِنـا

الأحـزابُ

والفَقْـرُ

وحالاتُ الطّـلاقِ 

عِنـدَنا عشرَةُ أحـزابٍ ونِصفُ الحِزبِ

في كُلِّ زُقــاقِ !

كُلُّهـا يسعـى إلى نبْـذِ الشِّقاقِ 

كُلّها يَنشَقُّ في السّاعـةِ شَقّينِ

ويَنشَـقُّ على الشَّقّينِ شَـقَّانِ

وَيَنشقّانِ عن شَقّيهِما ..

من أجـلِ تحقيـقِ الوِفـاقِ 

جَمَـراتٌ تَتهـاوى شَـرَراً

والبَـرْدُ بـاقِ

ويقول في قصيدة أخرى: 

جس الطبيب خافقي وقال لي

هل هنا الألم ؟؟

قلت له : نعم

فشق بالمشرط جيب معطفي واخرج القلم 

هز الطبيب رأسه.. ومال وأبتسم

وقال لي: ليس سوى قلم

فقلت :لا يا سيدي

هذا يد ...وفم

ورصاصة.. ودم

وتهمة سافرة.... تمشي بلا قدم

(أبي الوطن أمي الوطن)

أنت يتيم أبشع اليتم أذن

(أبي الوطن أمي الوطن)

لا أمك أحتوتك بالحضن

و لا أبوك حن

(أبي الوطن أمي الوطن)

نحن الوطن إن لم يكن بنا كريماً آمناً

ولم يكن محترماً ولم يكن حُراً

فلا عشنا.. ولا عاش الوطن

ونختم بقصيدة أخرى بعنوان "قم ياصلاح الدين قم "  يقول :

قم يا صلاح الدين ، قم " ، حتى اشتكى مرقده من حوله العفونة ،

كم مرة في العام توقظونه ،

كم مرة على جدار الجبن تجلدونه ،

أيطلب الأحياء من أمواتهم معونة ،

دعوا صلاح الدين في ترابه واحترموا سكونه ،

لأنه لو قام حقا بينكم فسوف تقتلونه (انتهى )

وختاما نقول : عندما  نتحدث عن أدب فصيح وأدب شعبي فهذا يعني أننا نتحدث عن مجتمع يعاني من ازدواجية لغوية، مجتمع ذي لغتين: لغة مكتوبة ولغة محكية.

والأدب الفصيح في مجتمع كهذا أدب نخبوي بطبيعته، وخاصةً إذا كانت الأمية متفشيَّةً فيه، ويبدو الأدب العامي في هذا المجتمع أيسَر في التلقِّي وأوسَع مساحةً في الانتشار وأكثر تأثيرًا في النفس.

ولكن هذا الانطباع سريع خادع، فالأدب العامي أدب عاطفي يتسم بالبساطة والضحالة ومحدودية الأفق، وتأثيره عاطفي آنِيٌّ وسطحي، أمَّا الأدب الفصيح فله تأثيران: ظاهر سريع، وخفيٌّ عميق، أما الظاهر منه فهو انطباع اللحظة الأولى عند التلقِّي، وأمَّا الخفي فهو ما يتركه في أعماق النفس من تأثير وما يقضي إلى تنشيط حركة العقل وتوسيع أفق الثقافة .

د . علوي عمر بن فريد