فاروق يوسف يكتب:
ما ثمن عودة سوريا إلى محيطها العربي؟
قبل كل شيء لستُ من المؤيدين لاستعمال مصطلح “تطبيع” في وصف المحاولات التي تُبذل من أجل إعادة سوريا إلى محيطها العربي.
من الطبيعي أن تكون سوريا في حاضنتها العربية من غير منّة من أحد. فالخطأ الذي حدث قبل أكثر من عشر سنوات ونتج عنه استبعاد سوريا من الجامعة العربية ومن ثم قطع العلاقات معها لا يمكنه أن يغيّر من حقيقة أن سوريا كانت دائما جزءا خلاقا وحيويا ونابضا في الجسد العربي وبغيابها التراجيدي فقد العالم العربي ذلك الجزء الحيوي من حياته.
لا يزال البعض مترددا في الإعلان عن رغبته في الانضمام إلى الأصوات المنادية بإنهاء القطيعة. ذلك التردد لا يعني الرفض ولكنه يعبّر عن نوع نادر من الحياء السياسي. ذلك لأن العرب من خلال مؤسستهم السياسية الجامعة لم يثبتوا أنهم بمستوى المسؤولية التاريخية التي وقعت عليهم يوم قُدّر لهم أن يقفوا بين الشعب السوري في حراكه الثوري مطالبا بالتغيير وبين النظام الذي عبّر عن تحجّره في مواجهة المطالب الشعبية.
لقد انسحب العرب بطريقة مزرية معترفين أن المهمة التي أوكلت لهم هي أكبر من قدرتهم. ولكن النوايا لم تكن حسنة. وهو ما لا يريدون الاعتراف به، حتى بعد أن تبينت الحقائق كلها وفقدت سوريا بسبب تقاعسهم القدرة على أن تستعيد العناصر التي تؤهلها لبناء نفسها من جديد، دولة مستقلة ذات سيادة.
في تلك اللحظة هزم العرب أنفسهم بأنفسهم وتخلّوا عن الدولة السورية والشعب السوري معا. فهم حين تخلّوا عن الدولة السورية لم ينفعوا في شيء الشعب الذي صار حطبا لحروب من أنواع مختلفة. داخلية وخارجية، ساهمت قوى الإرهاب وجماعاته وتنظيماته في إدارتها إضافة إلى مساهمة مباشرة أو عن طريق وكلاء من قبل دول إقليمية وعالمية.
بدلا من أن يلمّ العرب فضيحتهم في سوريا كانوا كما لو أنهم افتتحوا مزادا عالميا للإرهاب تاركين الشعب السوري لعبث دول كانت تحلم بأن يسمح لها بالتدخل في سوريا مثل إيران وتركيا ولتجاذبات دولية كانت خيوطها تمتد بين الولايات المتحدة وروسيا. كانت هناك فرصة لمساعدة الشعب السوري في حراكه أضاعها العرب يوم انجرّوا وراء عاطفة التضامن مع الشعب السوري التي تبين في ما بعد أنها لم تكن سوى فخ وقعت فيه سوريا من غير أن ينجو شعبها من الهلاك.
كانت المعادلة التي تقوم على المفاضلة بين النظام والشعب غير حقيقية وتفتقر إلى الصدق. فالشعب حين بدأ حراكه الثوري لم يكن يفكر برحيل النظام والنظام الذي تصرف بعماه المتوقع في مواجهة المطالب الشعبية المتواضعة لم يكن يفكر في رحيل الشعب. ولكن الفجيعة تكمن في أن أكثر من عشرة ملايين سوري رحلوا عن بلادهم وهُدمت المدن السورية ووقع الجزء الأكبر من سوريا تحت احتلالات مختلفة ولم يرحل النظام. الأسوأ أنه ليس هناك حل سياسي في الأفق.
بعد كل هذا الخراب فإن الحل السياسي يعتبر نوعا من السخرية من التاريخ. يشعر العرب اليوم بالحرج. لأنهم مطالبون بأن يزيلوا الضباب عن موقفهم ويضعوا الحقائق في مكانها. ما فعلوه وما لم يفعلوه. ما ربحوه وما خسروه. فهم حين تخلوا عن الدولة السورية لم يدعموا مطالب الشعب السلمية، ذلك لأنهم فقدوا القدرة على الضغط على النظام. لقد تركوه وحيدا يفعل ما يشاء من غير أن يشعر أن هناك أحدا يراقبه من غير عداء. ذلك ما عزّز لدى النظام شعوره بأن هناك مؤامرة قد حِيكت ضد سوريا دولة وشعبا.
ولأن سوريا لا تستحق ما جرى لها فقد آن للعرب أن يقوموا بجرد حساباتهم. فليست سوريا اليوم هي سوريا الأمس. الأمر لا يتعلق ببقاء النظام، بل يتعلق بسوريا الدولة التي تشرد شعبها وتمزقت أوصالها وصارت الجيوش الأجنبية تسرح وتمرح على أراضيها ناهيك عن التنظيمات والجماعات الإرهابية التي لا تزال ممسكة بإماراتها التي لم ينقطع عنها الإمداد والتمويل. ومَن يرغب حقا في استعادة سوريا عربيا عليه أولا أن يفكر في الحقائق على الأرض قبل أن يفكر في الشؤون الاعتبارية التي يمكن اختصارها باستعادة سوريا لكرسيّها في الجامعة العربية.
مأزق سوريا هو في حقيقته مأزق عربي. لقد فشل النظام السياسي العربي في الدفاع عن نفسه حين سلّم شعب سوريا لقوارب الموت. هُزم القرار العربي حين استضعف قدرته على التأثير وسمح لإيران بأن تفرض قراراتها. لذلك فإن ثمن عودة سوريا إلى محيطها العربي ينبغي أن يكون كبيرا.