د. حسن نافعة يكتب:
حان وقت التفكير في إعادة بناء النظام العربي
تمرّ منطقة الشرق الأوسط، وعالمنا العربي في القلب منها، بعملية تحوّل كبرى. فخلال العشرية الأولى من القرن الحالي(2001-2010)، دخل النظام الإقليمي العربي حالة من الشيخوخة والتكلّس، بسبب بقاء معظم قياداته في السلطة لفترات طالت أحياناً لأكثر من 40 عاماً، وكذلك بسبب رغبة معظم هؤلاء القادة في توريث السلطة لأبنائهم أو أقاربهم في الوقت نفسه. وهي سمة ميّزت نظم سياسية عربية عديدة خلال تلك الحقبة، كالنظام المصري في عهد مبارك والنظام الليبي في عهد القذافي والنظام اليمني في عهد علي عبد الله صالح.
ولأنّ هذا الوضع لم يكن قابلاً للاستمرار، فقد كان من الطبيعي أن تشهد المنطقة انفجاراً مدوّياً ظلت موجاته المرتدة تتوالى على امتداد العشرية الثانية(2011-2020)، وعرف إعلامياً باسم "ثورات الربيع العربي".
وبينما تطلّع الشباب العربي الذي أدّى دوراً حاسماً في إشعال تلك الثورات إلى إقامة نظم سياسية واجتماعية بديلة أكثر كفاءة وقدرة على بناء أوطانها وتحقيق آمال شعوبها وأمتها في الاستقلال والحرية والعدالة، إذا بالرياح تهبّ بما لا تشتهي السفن وإذا بالمنطقة كلها تدخل في دوامة من الفوضى الشاملة، جرّتها إليها صراعات جانبية وحروب أهلية وطائفية وتدخّلات إقليمية ودولية شاركت فيها قوى محلية وإقليمية ودولية رأت في نجاح مرحلة التحوّل الديمقراطي في العالم العربي خطراً داهماً على مصالحها.
وقد وصلت حالة الفوضى الشاملة التي مرت بها المنطقة خلال تلك الحقبة إلى حد انفجار مجلس التعاون الخليجي من داخله، حين قرّرت كل من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقتها الدبلوماسية مع قطر وفرض حصار شامل عليها.
وقد حدث هذا رغم الاعتقاد السائد وقتها بأن مجلس التعاون الخليجي يضم أكثر دول العالم العربي تشابهاً وتجانساً، ومن ثم أشدّها قابلية للتكامل والوحدة. وقد تسببت حالة الفوضى الشاملة هذه ليس في إضعاف واستنزاف العالم العربي فحسب، وإنما أدت في الوقت نفسه إلى تغلغل القوى الإقليمية والعالمية في شؤونه الداخلية، بل وبات ينظر إلى العالم العربي في ذلك الوقت باعتباره "رجل المنطقة المريض" الذي تتنافس القوى الدولية والإقليمية على اقتسام تركته.
لكن ما إن انتهت هذه الحقبة حتى بدأت تهبّ على المنطقة، لحسن الحظ، رياح جديدة غيّرت من اتجاه التفاعلات السائد فيها وقلبتها رأساً على عقب، ما يوحي بأن المنطقة تلبّستها روح جديدة وباتت على أعتاب فتح صفحة أكثر إشراقاً وقدرة على بث الأمل والتفاؤل.
فمع بداية الحقبة الثالثة من القرن الحالي، تهيّأت المنطقة لإطلاق سلسلة من التفاعلات التعاونية التي استهدفت وضع حد للخلافات القائمة بين الدول. صحيح أن هذه التفاعلات بدت خجولة في البداية، حيث اقتصرت في ذلك الوقت على محاولات متقطّعة للتوصّل إلى مصالحات وتسويات للخلافات العربية العربية، خاصة الخليجية منها والمصرية، لكنها راحت تنضج وتتجذّر ويتسع نطاقها ويتمدد تدريجياً إلى أن بات يشمل المنطقة كلها، بما في ذلك المحاولات الرامية إلى تسوية الخلافات القائمة بين الدول العربية وتركيا، من ناحية، وكذلك الخلافات القائمة بين الدول العربية وإيران، من ناحية أخرى.
وتعد القمة الخليجية التي انعقدت في مدينة العلا (كانون الثاني/يناير 2021) بمثابة ضربة البداية التي شكّلت نقطة الانطلاق الأولى على هذا الطريق. فعقب هذه القمة مباشرة، راحت العلاقات السعودية القطرية تعود إلى طبيعتها تدريجياً بوتيرة متسارعة، وتبعتها العلاقات المصرية القطرية، وإن بوتيرة أقل.
صحيح أن المحاولات الرامية إلى تطبيع العلاقات القطرية الإماراتية والعلاقات القطرية البحرينية، سارت بوتيرة أبطأ، لكنها لا تزال تتقدم بخطى ثابتة تدل على أن العودة إلى حالة التطبيع الكامل أصبحت مسألة وقت.
ولأن هذه الانطلاقة أرسلت إشارة لا تخطئها العين، تؤكد أن العلاقات بين دول الخليج باتت على وشك الدخول في مرحلة جديدة تتسم بالهدوء والتعاون، فقد كان من الطبيعي أن تشع هذه الحالة موجة من التفاؤل راحت تعكس نفسها إيجابياً على مجمل العلاقات العربية العربية، بما في ذلك العلاقة مع سوريا.
سوريا التي راحت تشهد بدورها مظاهر انفراجة متزايدة، ربما كان أبرز مظاهرها ذلك الاستقبال الحافل الذي لقيه الرئيس بشار الأسد أخيراً في الإمارات العربية، وقبل ذلك في سلطنة عمان، ما شجّع العلاقات الرسمية بين سوريا وباقي الدول العربية على أن تأخذ منحى تعاونياً متصاعداً يبشّر باحتمال عودة سوريا إلى مظلة الجامعة العربية في القمة العربية المقبلة التي ستعقد في الرياض.
على صعيد آخر، راحت هذه الانطلاقة الأولى تعكس نفسها إيجابياً على مجمل العلاقات العربية التركية وتسهم في تنامي وتيرة تطبيعها بسرعة. فبعد الأزمة الحادة التي شهدتها العلاقات التركية السعودية، خاصة عقب اغتيال جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول عام 2018، وما صاحب ذلك من حملة إعلامية عدائية ضارية بين البلدين، لم يكن أحد يتصوّر أبداً أن يقدم الرئيس التركي رجب طيب إردوغان بنفسه على زيارة السعودية في نيسان/إبريل عام 2022، مفسحاً بذلك الطريق نحو انفراجة موازية في العلاقات التركية المصرية، توّجت أخيراً بزيارة وزير الخارجية التركي لمصر منذ أيام قليلة، في أول زيارة يقوم بها إلى مصر منذ 10 سنوات.
الأهم من ذلك أن الانفتاح التركي على العالم العربي شمل سوريا أيضاً، الأمر الذي كان يصعب تصوّر حدوثه في ظل استمرار احتلال تركيا لجزء من الأراضي السورية. لذا يتوقّع أن تفضي الاتصالات الجارية حالياً على المستوى الأمني بين تركيا وسوريا إلى لقاء بين الرئيسين التركي والسوري، قبل الانتخابات الرئاسية التركية أو بعدها، وسواء فاز فيها إردوغان أم خسر.
ورغم أهمية ما جرى من تهدئة على هذه الساحات، إلا أن الإعلان عن توصّل السعودية وإيران إلى اتفاق على تطبيع العلاقات بينهما برعاية صينية، والذي لحقه إعلان آخر بعد أيام قليلة يؤكد قيام السعودية بتوجيه دعوة إلى الرئيس الإيراني لزيارة الرياض، شكّل المفاجأة الأبرز والأهم في سلسلة التفاعلات التعاونية التي شهدتها المنطقة خلال السنوات الأخيرة، وهي المفاجأة التي يتوقّع أن تكون لها نتائج إيجابية بعيدة المدى على مجمل التفاعلات التعاونية في المنطقة.
فالنجاح في تطبيع العلاقات الإيرانية السعودية خلال فترة زمنية معقولة سيؤدي إلى انفراجة فورية في العلاقات الإيرانية العربية، خاصة في العلاقات الإيرانية مع باقي دول الخليج، وسيساعد حتماً على تخفيف حدة الاحتقان في الأزمات المشتعلة في العديد من الدول العربية الأخرى، خاصة في العراق وسوريا ولبنان واليمن، الأمر الذي سينعكس بدوره على مجمل التفاعلات في المنطقة ككل.
هذا التحوّل الكبير في نمط التفاعلات العربية العربية، من ناحية، وفي نمط التفاعلات العربية التركية، من ناحية ثانية، وفي نمط العلاقات العربية الإيرانية، من ناحية ثالثة، لم يكن نتاج عوامل محلية أو إقليمية بحتة، سواء كانت على الصعيد العربي أو على الصعيد التركي أو على الصعيد الإيراني، بقدر ما كان نتاج عوامل خارجية تعود في المقام الأول إلى تحوّلات جذرية يشهدها النظام الدولي، خاصة بعد اندلاع الحرب بين روسيا والغرب على الساحة الأوكرانية. وهي تحوّلات تدفع هذا النظام للاتجاه حتماً نحو تعددية قطبية تنهي حقبة الهيمنة الأميركية المنفردة التي استمرت منذ سقوط وتفكّك الاتحاد السوفياتي في بداية حقبة التسعينيات من القرن الماضي.
ولأن هذه التحوّلات لا تزال جارية ولم تؤتِ كل أكلها بعد، ينبغي على العالم العربي أن يستفيد من الفرصة المتاحة وأن يعيد ترتيب أوراقه وأوضاعه ليكون جاهزاً ومستعداً للاستفادة من هذه التحوّلات حين تكتمل معالمها. وبعبارة أخرى يمكن القول إنه لا يكفي أن ينجح العالم العربي في تخفيف حدة التوتر القائم في علاقاته البينية، أو في علاقاته مع كل من تركيا وإيران، وإنما ينبغي أن يشرع النظام الإقليمي العربي في إعادة بناء نفسه على أسس جديدة تتلافى الأخطاء الكارثية التي وقع فيها من قبل.
ولكي يتمكّن هذا النظام من تحقيق هذه المهمة النبيلة، على نخبه الثقافية والفكرية أن تشرع منذ الآن في طرح نقاش عام حول كيفية بناء 3 آليات مؤسسية جديدة تحل محل الآليات القديمة:
الأولى: آلية مؤسسية لتسوية النزاعات بين الدول العربية ولإقامة نظام للأمن الجماعي وللتكامل العربي أكثر فاعلية.
والثانية: آلية مؤسسية لإدارة الصراع مع المشروع الصهيوني، باعتباره مصدر التهديد الرئيسي للأمة العربية كلها وليس للشعب الفلسطيني وحده.
والثالثة: آلية مؤسسية لإدارة العلاقات التعاونية مع كل من إيران وتركيا من خلال البحث عن مظلة أمنية جامعة تشارك في عضويتها كل من تركيا وإيران.