كرم نعمة يكتب لـ(اليوم الثامن):

ذكاء السيد بريكست الصلف

لندن

المرة الوحيدة التي رأيت فيها بوريس جونسون كان خارج محطة قطارات هامرسميث يوزع منشورات تحث على انتخابه عمدة للندن عام 2008. قلت له بعد أن سلمني المنشور مثل أي عابر، أعتقد أن لندن لا تفضل محافظا يكون طبق الأصل من توني بلير العمالي. فرد بقوله إنه يختلف كليا عن بلير.

لقد قال الحقيقة بشأن اختلافه عن رئيس الوزراء الأسبق بلير، لكنها حقيقة لا تقلل من ضرر سوئها، فبوريس وهو السياسي البريطاني الوحيد الذي ينادى باسمه الأول، مختلف عن بلير الكذاب بصلافة، لأن بوريس يكذب كمهرج مثير للاهتمام، لذلك أطلقت عليه سوزان مور الكاتبة السابقة في صحيفة الغارديان "كيس الأكاذيب" و"بوريسكوني" في إشارة إلى رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلسكوني، لأن فهمهما معا يعرّف السياسة هي الإعلام والرسالة هي الوسيط بينهما.

نجح بعدها بوريس جونسون في انتخابات عمدة لندن، ولم يكن ينتظر عدم تصويتي له! وقال جملته الشهيرة "ها أنا أحكم أكبر مدينة في العالم". ثم صار وزيرا للخارجية وبعدها زعيم حزب المحافظين إلى أن تسلق سلم رئاسة الحكومة البريطانية. فهو سياسي غير متردد مع نظرائه، في حين يعجب المسؤولون بذكائه وبراعته، إلا أنهم يعدونه شخصا عديم المبادئ وشعبوياً خطيراً، بيد أنه يمنح الصحافة القدر الذي يبقيها متشوقة إليه.

وسقوط "السيد بريكست" المدوي من رئاسة الحكومة بعد أن ترك سفينة بريطانيا غارقة، لا يعني تفجير فقاعة بوريس، الشخصية المثيرة للتهكم والجدل والمحاباة. فنجاحه مزيج من الامتياز والانتهازية وفقدان الضمير والترويج الذاتي الذي لا هوادة فيه. لذلك كل المؤشرات تتوقع نجاحه المالي بعد إفلاسه السياسي بمغادرة مبنى رئاسة الحكومة، إذ يرجح أن يكسب 250 ألف دولار عن كل محاضرة يلقيها. وأن شركته الجديدة على وشك تحقيق ثروة مالية. بينما تتوقع دور نشر أميركية أن تجلب مذكرات بوريس جونسون ما بين 1.1 و2.2 مليون دولار.

ستتبع شركة بوريس مسار السياسيين البريطانيين والأميركيين السابقين، لتقدم خطابات ومحاضرات تضفي على نفسها جاذبية وتعمل على تسويق سياسي لجذب ملايين من الناخبين. ذلك ما يدفع إلى الاعتقاد بأنه لن يدخل متحف التاريخ السياسي مبكرا، وأنه يخطط لاستثمار نجاحه المرتقب للعودة إلى السلطة. في يوم ما قالت شقيقته رايتشل إنه مسكون بغطرسة حلم قديم يطمح ليصبح "ملك العالم".

في عام 2019، بعد استقالته من منصب وزير الخارجية، قال إنه حصل على 132 ألف دولار من شركة "ليفينغ ميديا إنديا” التي تدير كبرى الصحف والمحطات التلفزيونية في الهند، مقابل مشاركة تحدث فيها لمدة ثلاث ساعات.

بوريس يحتاج إلى المال، ليس مثل كل الناس للمعيشة والسكن، المال عند بوريس "58 عاما، طلق ثلاث زوجات ولديه ستة أولاد" لتغطية تكاليف مزاجه الباهظ، فهو لا يقبل التراجع عن حياة رئيس الحكومة التي كان يحصل فيها على راتب يقدر بـ15 ألف دولار شهريا.

مع ذلك ليس كل المراقبين يعبرون عن توقعاتهم بنجاح مالي ينتظر بوريس في شركته الجديدة، فجينا نيلثورب كاون، المدير الإداري لوكالة بريطانية لإدارة المواهب، تقول "لن يحظى بشعبية هنا. سيحظى باهتمام من حين لآخر، وإذا كان محظوظا فسيحصل مقابل كل خطاب على مبلغ لا يزيد عن ستين ألف دولار سيدفعها جمهور أميركي منبهر بأسلوبه المتلعثم في الحديث ولهجته الأرستقراطية"!

وتعزو ذلك إلى أن الجمهور لا يشتري الأكاذيب، لقد كان مخادعا على مستويات كثيرة. إنه مضحك، بيد أن البريطانيين يعولون على الحقائق، ولا ينسون الضرر الذي أحدثه.