د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب لـ(اليوم الثامن):

مؤتمرُ فلسطينيي أوروبا يحفظُ الهويةَ ويحمي القضيةَ

غزة

يظنون أنه لا وجود لهذا الشعب ولا هوية له، ولا تاريخ يربطه بأرضه ولا ذكريات له في وطنه، ولا مقدساتٍ يتوق إليها ولا أمجاد له فيها، ولا انتماء يتمسك به ولا أصول يصر عليها، ولا آباء قاتلوا من أجله، أو أجداد غرست أجسادهم في أرضه، ولا ما يشده إلى ماضيه أو يربطه بمجده، فقد أنكروا وجوده، ورفضوا تمثيله، وتمنوا شطبه، وعملوا على زواله، وتآمروا عليه وعملوا ضده، واحتالوا عليه واتحدوا ضده، ولم يقصروا في حربه والاعتداء عليه ومحاولة خلعه، لكن مساعيهم كلها قد خابت، وباءت جهودهم كلها بالفشل، واستعلى الشعب الفلسطيني وسما، ونقش اسمه على هام الزمان ومضى، وسجل مجده على صفحات التاريخ وسنا.  

فهذا الشعب الضاربة جذوره في عمق الزمن وعلى مدى التاريخ، الثابت رغم الصعاب، والباقي رغم التحديات، والمصر على العودة، يأبى الشطب، ويرفض الذوبان، ولا يقبل بالتهميش، ولا يرضى بالركن أو يستسلم للحصار ويموت بالخنق، بل ينتفض ويثور على محاولات الإساءة والتضييق، ومساعي التعمية والتزييف، وأماني التخلي والنسيان، ويصر على كرامته، ويضحي من أجل حريته، ويتفانى في قتال عدوه، ولا ييأس في معركته، ولا يخاف من مواجهته، ويبتكر وسائل جديدة لقتاله، ويبتدع سبلاً مختلفة لمقاومته.

الفلسطيني حيث يكون يمثل وطنه، ويعيش قضيته، وينوب عن شعبه، ويعبر عن ألمه، ويكون خير سفيرٍ لبلده، وأصدق رائدٍ مع أهله، ومهما كان بعيداً فهو إلى وطنه أقرب، وإليه يحن، ومن أجله يعمل، وفي سبيله يقدم ويضحي، ويعطي ويمنح، ويجود ويسخو وخير ماله يبذل، وهو لا ينتظر داعياً يحثه، ولا محرضاً يدفعه، ولا غيوراً يشجعه، ولا عملاً يستفزه، ولا حوافز تغريه، أو مكافئاتٍ ترضيه، ذلك أنه يؤمن أن فلسطين وطنه، وأن تحريرها واجب، واستنقاذها فرضٌ، واستعادتها حقٌ، وأن القدس أمانةٌ، والأقصى آيةٌ، والمسرى عقيدةٌ، ولن تكون الأمة بخيرٍ ما لم تستعد فلسطين وتسترجعها، وتعود إليها حرةً عزيزةً مستقلةً.

لهذه المبادئ السامية والمفاهيم الوطنية الصادقة، والثوابت العقدية الخالصة، والشعارات التاريخية الخالدة، يعمل مؤتمر فلسطينيي أوروبا، وينظم مؤتمره السنوي للسنة العشرين على التوالي، دون كللٍ أو مللٍ، أو يأسٍ وقنوط، رغم حملة التحريض ضده، ومحاولات تشويه دوره وتلويث هدفه، حيث يؤمن منظموه أن الفلسطينيين القاطنين في أوروبا يستحقون بذل الجهد من أجلهم، والعمل معهم، وتنسيق الجهود وإياهم، وتوجيه طاقاتهم وترشيد اهتماماتهم.

فهم في أوروبا باتوا عشرات الآلاف، وقد غدو في دولها طاقاتٍ فاعلةً، وكفاءاتٍ علميةً مميزة، وقدرات اقتصادية كبيرة، وكثيرٌ منهم يتمتع بجنسياتٍ أوروبية، تحميهم وتقويهم، وتمنحهم الفرصة أكثر للعمل من أجل بلادهم، والتضامن مع شعبهم، والمطالبة برفع الظلم معهم، ومساندتهم في قضيتهم وتأييدهم في نضالهم، وكلهم يرغب في أن يكون له دورٌ في النضال وسهمٌ في القتال، أياً كان شكل المقاومة ونوعها، فقد غدت المقاومة صنوفاً وأنواعاً، ولم تعد سلاحاً فقط وقتالاً في الميدان.

تلك هي المفاهيم التي يعمل مؤتمر فلسطينيي أوروبا على بعثها وإحيائها، وتكريسها وتثبيتها، وتطويرها وتنويعها، وقد شعر الفلسطينيون المقيمون في أوروبا، أن هذا المؤتمر يمثلهم ويعبر عنهم، ويعكس رغباتهم ويترجم مشاعرهم، فلبوا نداءه، واستجابوا إلى إعلانه، وأخذت أجيالهم تتوافد عليه منذ عشرين عاماً، واشترك أبناؤهم على اختلاف مستوياتهم الاجتماعية وفئاتهم العمرية في كل المؤتمرات السابقة، التي حرص منظموه على أن يعقد دورياً في دولٍ مختلفة، ويطوفون به على كل العواصم الأوروبية، ليتسنى لجميع فلسطينيي أوروبا المشاركة فيه، والمساهمة في فعالياته، علماً أنهم يشاركون على نفقتهم الخاصة، ويأتون إليه من أقاصي أوروبا، يتكبدون المشاق، ويلاقون الصعاب، ويأخذون الإجازات، ويضحون بالوظائف والأعمال، بل ويقدمون ويتبرعون، ويساهمون في تغطية نفقات الانعقاد وبرامج العرض والتقديم.

مؤتمر فلسطينيي أوروبا مَكَّنَ الفلسطينيين المنسيين في أوروبا، والمهمشين قديماً من مرجعياتهم، من أن يكون لهم دورٌ وعملٌ، وساعد في تسليط الضوء على قدراتهم وإمكانياتهم، وكشف عن مواهبهم وطاقاتهم، وأظهر أنهم يستطيعون أن يساهموا في المقاومة وخدمة شعبهم ودعم صمودهم وترسيخ ثباتهم.

وساعد المؤتمر في حماية الهوية الفلسطينية، والدفاع عن الحقوق الوطنية، فبات العدو يخشاهم ويخاف منهم، فهم أقوياء في طرحهم، وصادقون في قضيتهم، ويحسنون التعبير عن معاناة شعبهم، وبيان مدى الظلم الواقع على أهلهم، وهم يتقنون اللغات الأوروبية، ويتمتعون بجنسيات بلادها المختلفة، وكثيرٌ منهم يتبوأ أعلى المناصب الحكومية والوطنية، وأفضل المراكز الاقتصادية وأكثرها تأثيراً وفعاليةً، وأصبحوا في المجتمعات الأوروبية صوتاً عالياً وعاملاً فاعلاً فيها، يؤثر سياسات حكوماتها، ويصوب قراراتها، ويدفعها لممارسة الضغط على الحكومات الإسرائيلية.

غريبٌ أمرهم ومستنكرٌ فعلهم، وفاضحٌ قولهم ومشينٌ نصحهم، وعيبٌ سعيهم ومشبوهٌ جمعهم، أولئك الذين يعترضون على مؤتمر فلسطينيي أوروبا، ويصفونه تارةً بأنه مؤتمر ضرار، وأخرى بأنه فتنة سياسية وانقلابٌ وانقسامٌ وشرذمةٌ، ويرفضون غيرة منظميه على قضيتهم، ويشككون في انتمائهم، ويتهمونهم في وطنيتهم، ويعيبون عليهم أنهم يهتمون بشؤون أهلهم، ويقلقون على مستقبل أجيالهم في أوروبا، ويصرون على حقهم في العودة إلى ديارهم، في الوقت الذي أهملوا فيه شعبهم، ولم يهتموا بشؤونه، وتركوه سنين طويلة وحده، وقد كان حرياً بهم، وهم يدعون أنهم المرجعية والممثل، أن يولوا أهلهم في دول أوروبا وغيرها الاهتمام المطلوب، لئلا تنحرف أجيالهم، ويضيع أبناؤهم، وتنحرف بوصلتهم، وتضل مجتمعاتهم.

مؤتمر فلسطينيي أوروبا أداةٌ نضالية وطنية جديدة، فهو منبرٌ متقدمٌ، ومنصةٌ عاليةٌ، وبرلمانٌ مفتوحٌ، وفسحةٌ دولية، وفرصة سانحة للتعبير عن الموقف الوطني الفلسطيني وتحصينه، وبيان هويته وحماية قضيته، وهو هيئةٌ وطنيةٌ جامعةٌ لشتات الفلسطينيين في أوروبا، تحافظ عليهم، وتثبت موقفهم، وتصون وحدتهم، وتوجه بوصلتهم، وتنظم جهودهم، وترفع صوتهم عالياً أمام المجتمع الدولي ومؤسساته السياسية والحقوقية والإنسانية.

والفلسطينيون في أوروبا يرونه خير من يعبر عنهم ويصون حقوقهم، ويدافع عنهم وينطق باسمهم، فهو لا يصنف المنتسبين إليه والمؤمنين به، ولا يفرق بينهم ولا يقصي أحداً منهم، ولا يحرم فريقاً أو يخون ويجرم طرفاً، بل يمنح الحرية للجميع ضمن الثوابت الوطنية، فلا يحتكر منبراً ولا يخمد صوتاً، ولا يصادر رأياً، فهل نتعاون معه ونساعده، ونؤيده ونسانده، أم نتعامل معه كما تعامل المشركون مع نبي الله إبراهيم عليه السلام فهلكوا ونجا، "فَمَا كَانَ جَوَابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَن قَالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنجَاهُ اللَّهُ مِنَ النَّار إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ".