عبدالله بن بجاد العتيبي يكتب:

الأزمات والصراعات برسم الاستمرار

صراع البشر حتمٌ لا مناص عنه، أفراداً ومجتمعاتٍ، حكوماتٍ ودولاً، شعوباً وأمماً، وإنما تعلمت البشرية عبر تاريخها الطويل ألا تنساق كثيراً خلف تلك الصراعات، وأن تهذبها كلما كان للعقل مجالٌ أرحب من الصراع.

طبيعة الحياة تكمن في أن الصراعات لا تنتهي، ولا يمكن أن تنتهي، ما دام في الدنيا مصالح متضاربة وأولويات متعددة وأطراف متباينة. إنها عملية مستمرة وبرسم الاستمرار الدائم، وليست قضية واحدة لها بداية ونهاية ويتم إقفالها، ومن هنا طور البشر أفكاراً ومبادئ، علوماً وآلياتٍ، قوانين وأنظمة، للتعامل مع هذه الاستمرارية الدائمة.

في الحرب الروسية - الأوكرانية، الكل مخطئون في حساباتهم وغايتهم منذ بداية الحرب وحتى الآن، فمستقلّ ومستكثرٌ، ومع ذلك فالكل مجمعون على اختلافاتهم على أن استهداف «الكرملين» بطائرة مسيَّرة كان حماقة كبرى ممن ارتكبها، أياً كان؛ فليس من مصلحة أحد أن يوقظ الوحش النائم، وقصة أنها مدبرة من الدولة الروسية هروبٌ من تبعات الحدث الخطير أكثر منها قصة قابلة للتصديق؛ فلا أحد يجدع أنفه نكاية بخصمه، ونعم، قد تصنع الدول أحداثاً مشابهة لأسباب متعددة وغايات مختلفة، ولكنّ حدثاً كهذا يضرب صورة روسيا القوية دولياً ويعطي شاهداً لكل من يريد التقليل من شأنها سياسياً وعسكرياً، وهو لبّ السياسة الغربية التي تحاربها روسيا منذ سنواتٍ طويلة.

في السودان ومخاطر الحرب الأهلية التي اشتعلت في لحظة كانت المنطقة تعيش تسويات كبرى شهدها العالم بأسره، إنما هي نتيجة ظروفٍ داخلية معقدة ومتشابكة وتراكماتٍ لم تجد حلاً حقيقياً، تتداخل فيها الصراعات الشخصية والمؤسساتية والعلاقات الخارجية، والتعامل معها هو تعاملٌ مع القناعة بطبيعة استمرارية الصراعات، والتفتيش عن الحلول ضمن الأطر السياسية الحديثة.

ما صنعته السعودية في السودان، ومعها حلفاؤها في أميركا والمنطقة، عملية طوارئ كبرى وواسعة لاحتواء ما يمكن احتواؤه قبل فوات الأوان؛ فرسم خطة لإيقاف إطلاق النار أولاً، وعمليات الإجلاء الكبرى لآلاف البشر من عشرات الجنسيات تمت بطريقة أذهلت كل المراقبين، وتزامنت معها عملية سياسية لجمع طرفي الصراع في جدة، وتقديم أفضل الحلول المتدرجة للسيطرة على تطورات الموقف، مع اهتمامٍ كبير بالبعد الإنساني هناك.

ذاكرة المنطقة لم تنسَ بعد حجم المآسي والحروب والصراعات والنزاعات التي سيطرت عليها لعقودٍ من الزمن؛ سواء داخل منظومة الدول العربية نفسها وبين بعضها البعض في زمن تفلّت الآيديولوجيات وصراعاتها، أم مع دول الجوار غير العربية في إسرائيل وإيران وتركيا، مع كل استراتيجيات الدول العظمى في العالم تجاه المنطقة، والسعي للظفر بأكبر قدرٍ من المصالح التي يُراد لها الاستمرار والديمومة، ولو على حساب دول المنطقة وشعوبها.

الانقلابات العسكرية وإسقاط الملكيات والشعارات الرنانة كانت مرحلة خيضت فيها حروبٌ مع إسرائيل، وقامت فيها مؤامراتٌ وصراعاتٌ لا حد لها، وانقسمت الدول مع الحرب البادرة والمعسكرين الشرقي والغربي، ثم جاءت الحرب العراقية - الإيرانية لثماني سنواتٍ، وجرعت المنطقة كثيراً من الخسائر، وحرب أفغانستان مع الاتحاد السوفياتي، واحتلال صدام للكويت وتحريرها، وبزوغ قرن الشيطان الإرهابي وإسقاط دولتي العراق وأفغانستان، والتمدد الإيراني في عدد من الدول العربية، كلها صراعاتٌ استمرت لفتراتٍ، ثم انقضى بعضها، ولكن الصراع نفسه لم ينقض، فهو يجد لنفسه شكلاً جديداً على الدوام.

ثم جاءت مرحلة التمدد التركي وأحلام التوسع والتحالف الأصولي العريض ولحظة «الربيع الأصولي» العربي، وسقطت أنظمة ودول، وتفشى «استقرار الفوضى» تحت شعارات الحرية والديمقراطية والحقوق، وتلاشت الشعارات، وثبتت الأصولية، ثم انتفضت بعض الدول لنفسها، وعادت، ولم تجد بعض الدول لنفسها مخرجاً بعد، والصراعات مستمرة وستستمر؛ فهذا منطق التاريخ وطبيعة البشر وسنّة الحياة.

لقد بذلت السعودية جهوداً كبيرة في تهدئة المنطقة وتوجيه صراعاتها ونزاعاتها لتصب في صالح الجميع في المنطقة، وتصبح المنطقة «أوروبا الجديدة»، بحسب رؤية ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويشهد العالم كيف استقرت بعض الدول وهدأت بعض النزاعات، ويشهد الكل الجهود المبذولة لاستعادة سوريا للصف العربي مجدداً، وها هي الجهود تُبذَل لاستعادة السودان على مرأى ومسمع العالم.

التسويات الكبرى لا تعني انتهاء الصراعات، بل تعني تقنينها والتفتيش عن المصالح المشتركة، وتحصيل الفوز لجميع الأطراف؛ فتحويل صراعات المنطقة من صراعاتٍ دامية عبثية إلى صراعات على المصالح، وبأدواتها السياسية والاقتصادية والتنافس على القمة والرقي، تحولٌ تاريخي لن تنساه المنطقة، حين يحقق أهدافه ويبني مستقبلاً مختلفاً لمنطقة أنهكتها الصراعات والحروب.

في خضم هذه الصراعات والنزاعات والتطورات تتغير طبيعة الأفراد والمجتمعات والدول، وتضعف تيارات وشعارات، وتظهر أخرى، وتسير الحياة بهذا وذاك، وفي كل مرحلة تياراتٌ ورجالٌ وُجدوا وخُلقوا للمهمات الصعبة والتوجهات الكبرى، وآخرون للتفتيش عن دورٍ أو التشغيب للتشغيب، وقد قالت العرب قديماً: «ذل من لا سفيه له»، كما قالت: «لا يصلح الناس فوضى لا سراة لهم، ولا سراة إذا جهالهم سادوا»، وقد حدث هذا ويحدث على طول التاريخ وعرض الجغرافيا، وهو جزء من استمرارية الصراعات الدائمة التي لا تنقضي.

يتبرم البعض من تجدّد الصراعات الدائم، لأنه يحسب أن الصراعات قضايا محصورة يمكن السيطرة عليها والانتهاء منها بينما لو تصورها كسيرورة دائمة لأصبح التعامل معها جزءاً من المعتاد والمتوقَّع، ولكن أكثر الناس لا يستطيعون تحمل ذلك، فضلاً عن تصوره بسبب سيطرة العواطف الجياشة والمشاعر الإنسانية النبيلة، ولذلك فلكلٍ مسلكه ومجاله واهتمامه بين البشر، ومن هنا اختلفت العلوم وتباينت المعارف وافترقت التخصصات، وكل ميسرٌ لما يحسن.

العملية في السودان اتجهت نحو نوعٍ من التفاوض في فترة قياسية مقارنة بالنماذج والأمثلة السابقة في السودان والمنطقة والعالم، وهذا أمرٌ مشجعٌ بحد ذاته، والتدخل القوي من دول المنطقة وحلفائها في العالم عجَّل من ذلك، وحين يجتمع الفرقاء السودانيون في جدة، سيصبح في متناول اليد إيجاد خريطة طريقٍ تبتدئ بوقف الصراع العسكري المســــــصلح وتنطلق منه إلى غيره، ولئن كان هذا خِلافَ معتاد البشر والصراعات، فإن مستقبل ذلك كله رهنٌ بإرادة السودانيين المتصارعين لا غيرهم.

أخيراً، فصراعات البشر مستمرة بمظاهر مختلفة وطرائق متباينة، والنجاح كل النجاح هو في توجيهها لصنع السلام والتنافس المثمر بدلاً من الهدم.