مريم الشيخ تكتب لـ(اليوم الثامن):

شعوب أفريقيا من العبودية إلى صناعة الأزمات

نواكشوط

دهور حالكة مؤلمة من الزمن عاشتها إفريقيا وشعوبها التي كان المستعمرون يسرقون بعضهم ويقتنصون البعض الآخر ويسوقونهم مكبلين الأيدي والأرجل كفرائس وغنائم لهم ينقلونها عبر البحار لبيعهم إلى مستعمر آخر اغتصب أرض لم تكن أرضه ولا أرض أجداده في أمريكا اللاتينية أو غيرها ولن تكون؛ ولو بقيت تلك التي حملتهم لنطقت برائحة استعباد كل من حُمِلوا فيها وأقرت أن بعضهم عندما يشتد به الهُزال في رحلة الإسترقاق الطويلة الشاقة هذه كان يُلقى به دون أدنى إكتراث ليصبح طعاما لكائنات البحار؛ أي كانت تبتلعهم بحار العبودية كما تبتلعهم بحار الهجرة غير الشرعية اليوم، والمسببات والدوافع هي نفسها المسببات والدوافع في الحقبة الإستعمارية البغيضة حتى وإن تغيرت الشعارات والأساليب والمتبعة، وحتى وإن اعتذر بعض المستعمرين عن تلك الحقبة المشينة من تاريخ البشرية.

 سرقوهم ليستعبدوهم في تلك الأرض أرض المستعمرات المغتصبة من أهلها الأصليين في مشارق الأرض ومغاربها، ويعمرون بهم مستعمراتهم ويبنون إمبراطورياتهم وتنهض بهم صناعاتهم، ولولا صراع الأباطرة على المستعمرة والمُستعبدين لبقي الرق قائماً بشكله الأول حتى يومنا هذا.

في حينها غرقت البحار بدمائهم وعظامهم واليوم كذلك.. في حينها نبتت المحاصيل على كدهم وعرق جبينهم مقابل فتات يمكنهم من البقاء على قيد الحياء ليس ليعيشوا وإنما ليستمروا بالعمل والإنتاج تحت قيود العبودية وسياطها، وغرقت الأرض بدمائهم وابتلعت مئات الآلاف من ضحاياهم في ثورات التحرر التي لا يزال عبقها ساريا يفوح حتى اللحظة.

لم تتراجع القوى الإستعمارية عن نهجها الإستعبادي للقوى الضعيفة في إفريقيا وغيرها نتيجة لتطورٍ طرأ على مفاهيمها الفكرية والأخلاقية وإنما تماشيا مع سياسة الأمر الواقع التي بات يفرضها المنتصر من المستعمرين على غيره من المستعمرين الآخرين وما رافق ذلك من ثورات وعنف، وكذلك نتيجة للكلفة العالية التي باتت تكلف تلك الحملات الإستعمارية ولم تنتهي أي حقبة استعمارية على نحو سلمي على الإطلاق، نعم انتهت الحقبة الإستعمارية الكلاسيكية ولكن لم تنتهي العبودية ولم ينتهي الإستعمار بلغته وفكره المعاصر إلى يومنا هذا، فبعد أن خرج بمفهومه الكلاسيكي الذي يفرض ذاته بـ (القوة العسكرية والاحتلال والسلب والنهب والسطو بالقوة) جاء اليوم بمفاهيم أخرى تبدو مرنةً ليفرض ذاته بها والفرضية هي الفرضية فرضية القوي الغني بما سلبه سابقاً بالقوة على الفقير الضعيف المستنزف مسبقاً من الحقبة الغابرة،  ولأن الغاية من ذلك واحدة وهي الإستغلال والإستنزاف إذن فالإستعمار لا يزال باقياً ولا تزال ضحاياه باقية في أفريقيا كلها في بريتوريا ومالي وبوركينافاسو والنيجر وغيرها من دول أفريقيا، وبالطبع لا نستثني أنفسنا في موريتانيا فلا زلنا وتلك الدول نعاني من فرضيات وتبعات تلك الحقب المظلمة وفرضياتها المجحفة وشواهد التاريخ حافلة بتلك الأحداث المريرة من فتن وقتل وسلب ونهب وتغذية للعبودية والعنصرية وتمكين فئة على أخرى لخلق الأزمات وضمان دوام المصالح.

ما يفيض من مداد أقلامنا ليس إفتراءاً ولا إنفعالاً وقد سبقنا في الحديث عنه قادة فرنسيون وإيطاليون وغيرهم، وأخر المتحدثين عن ذلك كان رئيسة الوزراء الإيطالية ميلوني من أن 30% من احتياجات فرنسا من اليورانيوم لإنتاج كهرباء أوروبا تقوم على اليورانيوم المنهوب من النيجر الذي يعيش 90% من شعبها بدون كهرباء ويهجر الأفارقة بلدانهم بسبب استعمار الأوروبيين لها واستعباد أطفال الأفارقة في المناجم التي تهيمن عليها، وسواء كان الإستعمار كلاسيكياً أو معاصراً فالغاية واحدة والوسائل متعددة وما أكثر صناعة الأزمات على هذا المسار، وما أكثر الضحايا.

المؤلم اليوم في هذه المأساة التي تمر بها الشعوب الأفريقية هو أن الدول والحكومات لا تعير أهمية لرأي الشعوب فيما يجري وفي حقها بالتمتع بثرواتها الطبيعية والعيش حياة حرة كريمة كسائر، ولا بأس في شراكة زيد وعمر من هنا وهناك على أن تكون شراكة منصفة عادلة لا تمس بالسيادة ولا بالرزق ولا بالحياة الكريمة.

المساعي الأفريقية للتدخل العسكري في هذا أو ذاك البلد الإفريقي لردعه قد تُحسب كتدخلات أوروبية حتى وإن لم تكن كذلك.. فلم تستعرضون أفريقيا كتابع هزيل ولا تبدون أدنى اعتبار لأبناء أفريقيا وإرادتهم، ولا شك إن بقينا على هذا الحال فستنفذ مواردنا وتنضب مناجمنا وآبارنا ونغدو عظاما تتهاوى من الوهن والفقر والجوع.. فهل ننتظر ذلك اليوم.

منذ أن وطأت جنودهم أراضي أفريقيا تحت عنوان مكافحة الإرهاب والجماعات الإسلامية المتطرفة فلا كافحوا الإرهاب ولا قضوا على الجماعات المتطرفة،؛ إذ لا يمكن لـ 1000 جندي أو 2000 القضاء على جماعات متطرفة مسلحة في دهاليز أفريقيا الواسعة لكنها قد تكون في بعض عنصر ضمان مصالح مهم تحت تلك الذرائع، وقد تكون كافية أيضا لدعم تلك الجماعات المتطرفة بين الحين والآخر كلما استدعت الضرورة ذلك، والمثير للإستغراب هنا هو كيف يكون الوجود العسكري لتلك الدولة الإستعمارية هنا أو هناك لمكافحة فئة متطرفة بعينها وغير معنية مثلا بمكافحة الجماعات والأنشطة المتطرفة الموالية لنظام الملالي الحاكم في إيران.. حيث لم نسمع يوما عن اعتراض أو مكافحة لهذه التدخلات الفجة متعددة الأشكال معززة بالمال والفكر والسلاح والغطاء الأمني من خلال الشركات العاملة؛ والحقيقة هي أنه من الواضح تماماً أن كل الأطراف تتفق على رؤيتها الإستعمارية وغض الطرف عن بعضهما البعض حتى تستمر مخططاتهما على حساب أبناء أفريقيا الجياع المنكوبين. 

ما نمر به اليوم من أزمات ما هو إلا مداداً طبيعياً لأزمات الماضي التي حمت وتحمي وستبقى تحمي مصالح المستعمر بنمطه الكلاسيكي أو المعاصر.. أفريقيا عامرة بالخيرات لكنها تستورد خياراتها من خارجها ولم يبقى أمامنا سوى أن نصنع خياراتنا بأيدينا.

مريم الشيخ/ نائبة برلمانية موريتانية