د. سامي خاطر يكتب لـ(اليوم الثامن):
خلاص الشرق الأوسط بدعم الانتفاضة الإيرانية وليس التطبيع مع الملالي
مع اقتراب الذكرى السنوية لتأجج الانتفاضة الوطنية الإيرانية لابد من مراجعة الأحداث التي جرت في إيران طيلة الفترة الماضية والسنة الماضية على وجه الخصوص وقد تأججت فيها مشاعر الغضب الشعبي في إيران ضد نظام الملالي إثر مقتل شابة كردية على يد ما أسموها بـ دوريات الإرشاد، وقد كانت الفتاة الكردية الإيرانية البريئة مهسا تحل ضيفة لدى ذويها في طهران، وتعرضت أثناء تحركها مع شقيقها في طهران إلى إجراء قمعي تعسفي بسبب سوء الحجاب حيث كانت الفتاة محجبة لكن حجابها لم يكن بالقدر المتماشي مع سياسة الإكراه التي يمارسها نظام ولاية الفقيه ضد النساء خاصة وعموم الشعب، ونهاية ذلك الإجراء القمعي كان ضرب تلك الفتاة بشكل بربري رأسها في معتقل شرطة الآداب فانتهى بها المطاف إلى غيبوبة ثم الوفاة بشكل مأساوي.
قراءة موجزة في تضحيات ومنجزات الانتفاضة الوطنية الإيرانية
لكل ثورة أدبيات وقيم وثوابت وتضحيات والثورة الإيرانية لم تنطفئ جذوتها منذ أن قامت وسُرِقت عام 1979، ويدرك الشعب الإيراني تمام الإدراك أن معاناته القائمة بسبب أن ثورته لم تحقق ما قامت من أجله بسبب سرقتها واستيلاء الملالي عليها لذا صعد من انتفاضته تواصلا مع ثورته، لكن جبروت النظام في مواجهاته القمعية وصلت حد قتل فتاة والتنكيل بها ببساطة لا لشيء سوى سوء حجابها وهو ما أدخل الثورة الوطنية الإيرانية في مسار جديد مطلبها الأول في هذا المسار هو إسقاط النظام.
قُتِلت أيقونة الانتفاضة الشابة الكردية الإيرانية مهسا أميني بعد أن احتجزتها شرطة الآداب بذريعة انتهاكها القانون الصارم الذي يطالب النساء بتغطية كامل شعرهن، وقد طالب في حينها المحتجون الذين يخرجون في مظاهرات تقود النساء غالبيتها بالحصول على إجابات وإجراء تحقيق حول سبب وكيفية وفاة أميني، وإلغاء قوانين الحجاب الصارمة وحل شرطة الأخلاق التي تطبق هذه القوانين.
وسُرعان ما أصبحت مهسا إحدى أشهر ضحايا العنف ضدّ المرأة في إيران إذ خلَّف مقتل الشابّة الإيرانيّة غضباً كبيراً تحوَّل لسلسلةٍ من الاحتجاجات التي بدأت في مدينة سقز مسقط رأسها وامتدَّت مع توالي الأيام لعشرات المدن بما في ذلك العاصِمة طهران وغيرها من المُدن الكبيرة، كما حظيت قضيّتها بصدى وردود فعل عالميّة بدءاً من الأمم المتحدة التي نشرت عدداً من التقارير التي تُركّز على العنف ضد المرأة في إيران وصولا إلى بيانات عشرات المنظمات الدولية الحقوقيّة التي أدانت العنف الذي تمارسه شرطة الأخلاق على النساء.
وتصاعدت حدّة الاحتجاجات، حيثُ شهدت المظاهرات هتافاتٍ مطالبةٍ بإسقاط نظام الملالي والتوقّف عن اضطهاد الإيرانيات والمطالبة بمحاسبة المسؤولين، وقمَعت الحكومة الإيرانيّة منذُ اليوم الأول أغلب المظاهرات باستعمالِ مضخات المياه والغاز المسيل للدموع والرصاص المعدني وتطوَّر الأمر ليصلَ إلى استعمالِ الرصاص الحيّ ما تسبَّبَ في سقوطِ مئات القتلى وآلاف الجرحى، كما أقدمت الحكومة على تقييد الوصول لتطبيقي واتساب وإنستغرام، قبل أن تُقيّد الوصول لشبكة الإنترنت بالكامل في عددٍ من المدن وذلك للحدّ من قدرة المتظاهرين على التنظيم.
لقد أبرزت الانتفاضة الشعبية الأخيرة في إيران التي انطلقت في أكتوبر 2022 ولا تزال مستمرة عدة حقائق منها:
1- أظهرت الانتفاضة الشعبية الأخيرة في إيران ضعف شعبية النظام، وبيّنت مدى اعتماده على القمع وأجهزة الأمن رغم مرور أكثر من أربعين سنة على تأسسيه إذ لم تتحرك مثلا الجماعات الإيرانية المؤمنة به للدفاع عنه بمسيرات وشعارات بالحجم الذي يستعرضه أو أقل لتُظهر التأييد لولاية الفقيه أو الالتفاف حول النظام الذي وجد نفسه معزولاً ولا يزال منفوراً منه حتى الآن!
2- بيّنت الانتفاضة سطحية النظام بكافة أقطابه وفضحت أكذوبة ما اسموه بـ «التيار الإصلاحي» داخل النظام إذ لا يحتمل هذا النظام وجود أي فكر أو توجه يزعزع استقرار نظام ولاية الفقيه أو إصلاح النظام وترقيعه لذا كان على قطبي نظام ولاية الفقيه أن يتقاسموا الأدوار والواجبات مثلما تقاسموا السلطة والإمتيازات، ويعلم قطبي النظام أن قيم الحرية والديموقرطية ستفكك النظام وتسقطه فهي تتعارض مع مبدأ «ولاية الفقيه» التي تتحكم في كل الأمور، والحقيقة أن الشارع لا يعبأ بها أو يعتبرها ذات قيمة على الرغم من مرور أربعين عاما من الترويج والتعليم والتعبئة.
3- أظهرت الانتفاضة الدور القيادي للشباب، وظهر بجلاء فشل التعبئة الدينية، ورفض الجيل الجديد للنظام حتى في المدن الدينية، وأبرزت الانتفاضة الدور الرائد للمرأة الإيرانية، وأظهرت حركة المرأة بدورها الفجوة الهائلة بين النظام والمفاهيم العصرية.
4- أبرز الدور الريادي للطلبة في الدفاع عن الديموقراطية الليبرالية بما فيه عدم معاداة العالم الغربي- الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا- وهو التوجه الذي لم يبرز في الربيع العربي بسبب ثقل الجماعات الإسلامية ولأسباب أخرى، وقد نجح الإسلاميون في العالم العربي في توجيه التحرك الواسع ضد أهدافه وبخاصة في بناء مجتمع ودول حديثة مثل « أوروبا» كما كانوا يحلمون في بداية التحرك.
5 - عززت الانتفاضة الإيرانية وحدة الشعب الإيراني من الشمال إلى الجنوب، وأبرزت تلاحم القوميات والأديان والمذاهب، وقد كانت كلها تحت طائلة توجهات تفكيكية رائجة انتعشت في إيران فترة طويلة لأهداف سياسية، وتراجعت أهمية الانقسامات القومية بين الفرس والأكراد والأتراك الأذريين، والبلوش والعرب كعامل معرقل لأي نهضة أو انتفاضة أو معارضة أو تحرك وطني.
6 - أظهر استمرار وتواصل الانتفاضة الإيرانية عزلة النظام وفشل سياساته، وعدم قدرة مفاهيمه على إقناع الداخل والخارج بالموقف الحكومي الذي اعتمد لسنين طويلة على القمع والفساد والعنف وادعاءات دينية ومذهبية متزمتة.
7- يشعر الشعب الإيراني الآن بعد تأجج الانتفاضة البطولية ضد الدكتاتورية بمزيد من القوة ويرون أن انتفاضتهم واعدة وأكثر قوة ذلك لأنهم يعتقدون بأنهم قد تجاوزوا منتصف طريق الإنتصار على الدكتاتورية!
8- في نظرة واقعية إلى انتفاضة الشعب الدامية في إيران نرى أنه تم قطع شوطا بعيداً طويلاً، وأنه قد تم كسر العديد من العقبات ومؤامرات الرجعية والاستعمار التي جرفت معها للأسف بـ"الخداع" و "الحيلة" بعض التيارات "النفعية الإنتهازية" "قصيرة النظر"، وها قد وصلت دكتاتورية الملالي إلى حافة هاوية السقوط، وما ليس له وجود في "الحقيقة" بمشهد الانتفاضة الشعبية الآن هم فلول دكتاتورية الشاه والشخصيات الانتهازية والتيارات الاستعمارية التي جيئ بها بواسطة الرجعية والاستعمار إلى مشهد الأحداث!
ويمكن القول إن المعارضة وجماهير الشعب الإيراني رغم تضحياتها وصمودها خلال الانتفاضة فإن الكتلة المليونية لم تتحرك حتى الآن في إيران بعد، وإن الانتفاضة الأخيرة انفجار سياسى ناتج عن تراكم غضب شعبى عارم، كما أن ابتعاد مصر عن إقامة علاقات مع الولى الفقيه يًعد بالتوجه الحكيم.
ويتوجب على الحركات الشعبية والتيارات والتنظيمات الإيرانية الأصيلة والقوى الحقيقية المعارضة للدكتاتورية العمل على تسريع التطورات المتعلقة بإيران وتحرير إيران من نير الرجعية والاستعمار بشعار "لا للشاه ولا للملالي" بغض النظر عن أي خلافات واقعة أو متصورة، وإعادة إيران إلى شعبها لإقرار حكومة وطنية وديمقراطية.
المخاطر والمؤامرات المحيطة بالثورة وتربص القوى الطفيلية بها
كثيرة هي المخاطر والمؤامرات المحيطة بالثورة سواء تلك يقوم بها نظام الملالي في الداخل والخارج، أو تلك المتعلقة بالنهج المشين التي تقوم به قوى الاسترضاء والمهادنة في الغرب، أو ذلك الدعم الأمريكي العلني لنظام الملالي وتوفير مليارات الدولارات له ليقتل بها أبناء الشعب الإيراني المنتفضين ويعزز أمل الملالي في البقاء على سدة الحكم في إيران بما يخدم مصالح الأمريكان والغرب، ولا يمكن تفسيرها بعيدا عن هذا المنطق مهما كانت المبررات والدوافع.
إن الموقف الأمريكي من نظام الملالي يؤكد أن ثمة دعماً وتأييداً عميقين لسياسات نظام الملالي في الشرق الأوسط وهو نهج اتبعه الامريكان والغرب من قبل مع دكتاتورية نظام الشاه البائد، واليوم يدعم دكتاتورية نظام الملالي في مواجهة ثورة الإيرانيين لأسباب مختلفة ومتعددة؛ حيث تتخذ العلاقات الإيرانية - الأمريكية طابع التوافق الضمني، والاختلاف والصراع الظاهري، ولعل الأبرز في تعبيراته الحالية التصريحات الأمريكية التي تدعم ثورة الإيرانيين وتدين ممارسات نظام الملالي، إضافة إلى خط موازٍ يتضمن الإعلان عن عقوبات جديدة على إيران وفي الوقت تسيل مليارات الدولارات الأمريكية على الملالي بمبررات لا يمكن لها أن تكون واقعية مقبولة.
يأتي عمق الدعم والتأييد في جوهر الموقف الأمريكي من نظام الملالي تأكيدا بأن بعدا أمريكياً هاما لسياسات ملالي إيران في الشرق الأوسط، فقد كانت الولايات المتحدة الراعي الأكبر لاتفاق «5+1» حول المشروع النووي الإيراني الذي تم التوصل إليه أواسط عام 2015 الأمر الذي أسهم في رفع العقوبات عن إيران رغم خروقات الأخيرة لمحتويات الاتفاق، وقبل ذلك بسنوات طويلة كانت واشنطن نفسها التي سلمت العراق لسيطرة النظام الإيراني، وتكتمت عن سياسة تابعيه في قيادة السلطة العراقية بل ودعمته أيضاً، كما صمتت بما يشبه التأييد عن التمدد الإيراني في المنطقة بما فيه التمدد الدموي في سوريا والعراق واليمن، سواء عبر قواتها وأجهزتها الأمنية، أو بواسطة ميليشيات شيعية يرعاها ويديرها نظام الملالي كما في الحالة السورية التي تصمت فيها واشنطن عن تحالف الملالي ونظام الأسد وجرائمهما، ويدعم الموقف الأمريكي في الواقع بقاء نظام الملالي ولو بتعديلات معينة، كما صرحت مصادر أمريكية مؤخراً، ويستند هذا الدعم إلى خلفيات أخرى أساسها طبيعة نظام الملالي من جهة، وإلى وظيفته وتعهداته في المنطقة من جهة أخرى.
بينما تحتضر الإيديولوجية المذهبية الراديكالية لنظام الملالي باسم الشيعة داخل إيران نفسها كما يتضح من الاحتجاجات المستمرة إلا أنه ما زالت هناك ثلاثة مساجد في ولاية ميتشيغان الأمريكية ترفع شعارات طهران وتمجد ولاية الفقيه ؛ إذ يعمد النظام الإيراني وحلفاؤه من حزب الله إلى مواصلة التسلل المراوغ عبر بناء تحالفات في مدينة ديربورن حيث يتركز أكبر تجمعات للطائفة الشيعية من شأنها تهديد الولايات المتحدة من خلال تبنى الفكر الجهادي واللعب على ورقة الهوية الطائفية للتغلب على الأصوات الشيعية المعتدلة في الولاية الأمريكية.
الانتفاضة الوطنية الإيرانية ما لها وما عليها في ذكراها السنوية
كل الحقوق مشروعة للانتفاضة الإيرانية في ذكراها السنوية في منتصف سبتمبر الجاري، وللثوار حق الاعتراف بالدفاع عن النفس بشتى السبل الممكنة والمتاحة كما لها حق الدعم والاسناد الكاملين من كافة أحرار العالم ذلك لأنها لا يعول عليها فقط بتغيير الأوضاع في إيران وإنما بالمنطقة والعالم ككل، أما من ناحية ما عليها فلا يترتب عليها شيء سوى رص الصفوف والصمود والثبات والمضي قدماً حتى النصر وعدم الاكتراث بما يحاك لها من مؤامرات.
النصر والمجد للانتفاضة الوطنية الإيرانية في ذكراها السنوية.