محمد خلفان يكتب:
إيران تنهي عصر "الحرب خدعة"
إيران بشّرتنا، منذ أيام، أن عصر السرية كمبدأ للعمليات العسكرية الناجحة في طريقها ليس إلى الانحسار والتراجع وإنما إلى الإلغاء بالكامل، وأن الإعلان عن نية الدولة في شن الحرب يمكن حدوثها قبل فترة زمنية كافية ليس فقط من باب حسن نية المهاجم على العدو، ولكن من باب إعطائه فرصة للاستعداد لصد تلك العمليات، هذه هي خلاصة تلك العملية التي سهر العالم انتظاراً لما سينجم عنها.. وفعلاً كانت سهرة ممتعة للجميع.
تربى كل المخططين العسكريين على أن تحقيق النصر في الحروب يحتاج إلى تتبع بعض التكتيكات التي تباغت فيها العدو بالهجوم، وكلما كانت الحبكة السرية متقنة فإنها ترجح نجاح العملية الهجومية. بل ينقل لنا تاريخنا العربي في صراعنا مع إسرائيل أن أحد أسباب نصر حرب أكتوبر 1973 يتمثل في عنصرين، العنصر الأول: السرية التامة، بل بالغ البعض أن هذه السرية طبقت على بعض الحلفاء العرب لذا تفاجأ العدو وهزمت إسرائيل باعترافها واعتراف حليفها الإستراتيجي الولايات المتحدة. والعنصر الثاني الذي ساعد في تحقيق هذا النصر العربي هو مباغتة العدو ومفاجأته.
وإيران، لأول مرة في التاريخ، غيرت القواعد العسكرية وكل النظريات العملياتية وأعلنت بكل شفافية ووضوح عن نيتها شنَّ هجمات بالمسيرات على إسرائيل قبل حدوثها بـ72 ساعة في سابقة حيرت كل المفكرين والمحللين الإستراتيجيين في العالم. ومكمن الحيرة والاستغراب أن مشكلة العالم مع إيران هي: عدم وضوحها وشفافيتها في التعامل. فماذا استجد في التعامل لكي تبلغ العالم كله بأن مسيراتها تحتاج حوالي 9 ساعات لقصف تل أبيب فصار الجميع يتابع خط سيرها لكنها لم تصل؟
المستثنى من هذه الحيرة بعض “دهاة العرب” من بقايا عصر القوميات والثورات العربية الذين كنا نعتقد أن انتصار حرب أكتوبر والتكتيكات التي استخدمت فيها مثلت مرحلة ما بين فشل الخطابات القومية ودخول مرحلة التفكير العقلاني. فهؤلاء بدلاً من احترام عقلية الإنسان العربي أظهروا على السطح الإعلامي سيرتهم الأولى “الثرثرة القومجية” مبررين لنظرية إيرانية جديدة في “فن الحرب” تخالف التي وضعها المفكر الصيني “سن تزو” في أطروحاته العسكرية قبل القرن السادس من التاريخ.
إسرائيل دولة عدوة للعرب وهذا لا يختلف عليه إثنان على الأقل لأنها أحد مصادر تهديد الأمن العربي، ومن الطبيعي أن يفرح العرب إذا تعرضت هذه الدولة لحالة من الهزيمة لكن غير المفهوم أن نجد رأْيًا عامّاٍّ عربيًّا يصدق أكاذيب الإعلام الإيراني ولديه إيمان كامل بأن هذا النظام يريد تحرير القدس، مع أن النظام الإيراني بين أن العملية ليست لها علاقة بحرب غزة وإنما هي ردٌّ على قصف قنصليتها في دمشق. ومن غير المفهوم أيضاً عودة الخطاب القومي العربي الذي كان يهدد بقصف تل أبيب وتدمير مطاراتها إلى حين اكتشف العرب أن المطارات العربية هي التي قصفت.
أذكر حواراً كان فيه الأستاذ عبدالرحمن الراشد الإعلامي المعروف، قال فيه إن مسألة تغيير الخطاب الإعلامي العربي من خطاب أحمد سعيد (الذي تبرأ منه قبل وفاته) ليكون خطاباً عقلانياً يؤمن بوطنه وقضاياه، تحتاج إلى أجيال وليس جيلا واحدا، لأن عمر هذا الخطاب أكثر من خمسة عقود وهو يجدد نفسه بوجود بقاياه من ذلك الزمن. ولو لاحظنا من “يردد” هذا الخطاب، ستجد أنه من جيل ذلك الزمن الغابر، وكأن المسألة حنين لهذا الخطاب ولكن بنكهة فارسية وليست عربية.
إيران مثلما تدرك قواعد الاشتباك مع إسرائيل، تدرك أيضا أن الحرب الحقيقية لن تقتصر على إسرائيل، وأن الولايات المتحدة ستدخل وبقوة. وهي تعلم أيضاً أن هناك بعضا من المفكرين العرب ممن لا يزالون يعيشون في عالم الخيال السياسي والوهم الإستراتيجي، وبالتالي ما فعلته حقق شيئين اثنين؛ الأول، أوهمت القوميين والشعبويين بالنصر التاريخي، مثلما كانت تفعل خطابات جمال عبدالناصر، مع أن إيران نفسها لم تقل إن هذا نصرا. والثاني، أن إيران غيرت اتجاه الرأي العام العالمي عن القضية الفلسطينية فرجعنا إلى المربع الأول، وأعادت بعضاً من الشرعية لنتنياهو.