فاروق يوسف يكتب:
هل تحتاج الولايات المتحدة إلى رئيس عاقل
لو سحب الحزب الديمقراطي مرشحه جو بايدن بسبب عدم توازنه وسحب الحزب الجمهوري مرشحه دونالد ترامب بسبب عدم اتزانه من سباق الرئاسة الأميركية لحدثت أكبر انتكاسة في تاريخ الديمقراطية. فليس من شروط الرئاسة في الولايات المتحدة أن يكون الرئيس عاقلا ولو كان عاقلا لما وافق على أن يكون زعيما لدولة جُن العالم بسبب جنونها. كما أنه ليس من شروط تلك الرئاسة أن يكون الرئيس متزنا أخلاقيا ولو كان كذلك لما ارتضى أن يكون زعيما لأكبر عصابة في التاريخ البشري تعمل أذرعها على إبادة الشعوب وسرقة ثرواتها وتسخير القوة العسكرية الأعظم في العالم لتدمير الدول وإذلالها والاستخفاف بالعدالة.
بايدن وترامب وكل واحد منهما له تجربة في حكم دولة، افتضح الجزء الأكبر من تفاصيل جنونها وانحدارها الأخلاقي، هما الأكثر صلاحية لتولي دورة جديدة من الحكم. أربع سنوات جديدة تؤكد من خلالها الولايات المتحدة ثباتها على مبادئها المعادية للشعوب وفي الوقت نفسه يؤكد الشعب الأميركي كراهيته لكل المبادئ السياسية التي تقوم على العقل والأخلاق والعدالة منحازا إلى قوة الابتذال والتفاهة والسطحية التي سبق وأن أشار إليها فنانون ومفكرون وشعراء وفلاسفة أميركيون قبل شيوع وانتشار موضة “الشعبوية” التي ألقى الكثيرون على عاتقها مسؤولية انحدار مفهوم الرئاسة الأميركية وتدهور شخصية الرئيس. كانت الشعبوية مجرد ظاهرة عابرة ركيكة التأثير أما الجوهر فإنه يقوم على المبدأ الذي يخالف العقل ويتصدى للأخلاق.
الولايات المتحدة دولة ليست عاقلة ولا تتمتع بأي حس أخلاقي. فهل يُعقل والحالة هذه أن يكون رئيسها عاقلا أو ذا مستوى أخلاقي رفيع؟ سيُقال إن الوضع مع خرف بايدن وفضائح ترامب الأخلاقية صار خارج السيطرة. ذلك ليس صحيحا. لم يكن الوضع مع جون كينيدي وجورج بوش الأب والابن معا وبيل كلينتون وليندون جونسون وريتشارد نيكسون تحت السيطرة المزعومة. كل واحد من أولئك الرؤساء وسواهم ارتكب جرائم إبادة بشرية واخترق القانون حتى على المستوى الأخلاقي الشخصي. ما من رئيس أميركي إلا وتحوم حوله شبهات الجنون أو الانحطاط الأخلاقي. وليس ذلك إلا انعكاسا لطريقة العقل السياسي الأميركي في العمل. وهي طريقة تبدو مظهريا على قدر كبير من التعقيد غير أنها في الجوهر تكشف عن أن القرار السياسي لا يتخذه الرئيس بل تتخذه الشركات العملاقة وفي مقدمتها شركات السلاح والطاقة.
أن يكون الرئيس الأميركي مصابا بخرف الشيخوخة أو أن يكون رمزا للانحراف الأخلاقي، ذلك ما يجد فيه الأميركيون مدعاة للفخر. فأميركا هي أميركا
يُظلم بايدن بسبب انحطاطه الجسدي وتقدمه في السن ويُظلم ترامب بسبب انحطاطه الأخلاقي وشراهته في التكسب. كان باراك أوباما يوم صار رئيسا لدورتين متتاليتين شابا متيقظ العقل ورياضيا ولم تكن لديه مغامرات لا أخلاقية، ولكن هل سعى ذلك الشاب من أصول أفريقية إلى إخراج دولته من دائرة جنونها وانهيارها الأخلاقي؟ كل الوعود التي أطلقها في مجال الارتقاء بحياة الأميركيين وبالأخص في المجال الصحي والتي وهبته فرصة الحكم للمرة الثانية جرى تناسيها ولم يبق منه للذكر سوى ذلك الشاب الأسمر الذي تحبه زوجته ميشيل. شيء ما قريب من المسلسلات التلفزيونية.
لا تحتاج الولايات المتحدة إلى رئيس عاقل بأخلاق حسنة. ذلك ما يمكن أن يسخر منه الأميركيون العاديون. فالمعجزة الأميركية لم تستند أصلا على العقل والأخلاق، بل على التهور والطيش وروح المبادرة عن طريق الانتهاك. ذكاء الفرد في النظام الرأسمالي يكمن في أن يفلت من العقاب حين يخترق القانون. تلك معادلة أشاعت الجنون في العالم الحر. الفاسدون على سبيل المثال هم الأكثر دفاعا عن النزاهة والقتلة هم أكثر المدافعين عن السلام. غير مرة وُهبت جائزة نوبل للسلام لأشخاص، كان يجب ترحليهم إلى محكمة العدل الدولية. ولو كان هناك شيء من العقل في سلوك العدالة الدولية لكان الرئيس الأميركي لندون جونسون قد مات وراء القضبان بسبب جرائمه في فيتنام ولقضى جورج بوش الابن باقي أيامه في السجن بسبب تدميره لحياة المدنيين في أفغانستان والعراق. ولكن أميركا صنعت عالما يشبهها.
أن يكون الرئيس الأميركي مصابا بخرف الشيخوخة أو أن يكون رمزا للانحراف الأخلاقي، ذلك ما يجد فيه الأميركيون مدعاة للفخر. فأميركا هي أميركا. هي التي تفرض نموذجها على العالم الذي لا تسمح له بفرض نموذجه عليها. العيب ليس في أميركا بل العيب في مَن صدق أن الديمقراطية يمكن استيرادها منها. الدولة التي ألقت مئات الأطنان من اليورانيوم المنضب على الشعب العراقي وهي تعرف أنه شعب أعزل لا علاقة له بآلة الحرب هي بالتأكيد ليست دولة ديمقراطية. ولو لم يكن رئيسها مجنونا لما فعلت ذلك.