أمين اليافعي يكتب:
ثنائية الخير والشر في خطاب خامنئي: قراءة جديدة
في الأسبوع الماضي غرّد علي خامنئي المرشد الأعلى للثورة الإيرانية على حسابه باللغة العربية في منصة إكس (تويتر سابقاً) عدّة تغريدات يدور مضمونها حول أن المعركة بين “الجبهة الحسينية والجبهة اليزيدية مستمرة، ولا نهاية لها”.
يستند مضمون التغريدات إلى رؤية راسخة وشائعة لدى أكثر التيارات الشيعية تشددا والتي تُقسِّم العالم إلى ثنائية واحدة لا غير، هي: الحسينيون واليزيديون، وإن كان مضمونها لا يُمثل مفاجأة للمتابع أو خروجاً عن النص حتى وإن صدر عن رأس نظام هو قائم أيديولوجيّا في الأساس على أكثر المذاهب الشيعية تشدداً (الإثنا عشرية). عنصر الغرابة يكمن في توقيت هذه التغريدات؛ فإيران التي يُفترض أنها تخوض في الوقت الحالي معركة كسر عظام الوجه مع إسرائيل و“نظام الاستكبار العالمي”، بحسب الوصف الأثير للنظام الإيراني، من جهة، ومن جهة أخرى تبذل دولٌ عربية وإسلامية جهوداً حثيثة في محاولة عسيرة ومضنية لإقناع عُتَاة النظام الإيراني المؤدلجين بكبح جماح العنف والفوضى في المنطقة، والدخول في مرحلة جديدة تسود فيها مشاريع التنمية والاستقرار والشراكات الاقتصادية القائمة على المصالح المتبادلة، كان غريباً في ظل هذه الظروف أن يُعيد خامنئي تذكير أنصاره بأن معركتهم الوحيدة والأبدية هي مع اليزيديين.
والمتأمل في تاريخ ومسار الثورة الإيرانية سيكتشف المفارقة التي ظلّت كسمة بارزة وثابتة لدى قادتها ومنذ ما قبل قيامها وهي أن متانة تعصبهم الأيديولوجي لم تمنعهم قط من انتهاج إستراتيجية مُراوِغة تقوم على تنويع الشعارات العابرة للأيديولوجيات، شعارات متزامنة ومتناقضة في الوقت ذاته، في سبيل استقطاب أكبر قدر ممكن من المؤيدين والأنصار والمعجبين داخل إيران وخارجها، وكذلك لكي يتم ضمان نجاحها واستمرارها في ذروة الصراع بين المعسكرين الغربي والشرقي.
في البداية، ولجذب اليساريين الذين كانوا يُمثلون ثاني أكبر قوة معارضة لنظام الشاه في ذلك الوقت، استعار القادة الإسلاميون بعض الشعارات المستمدة من منظومة القيم الاشتراكية كالعدالة والمساواة ومناهضة التوجه الرأسمالي و”نظام الاستكبار العالمي” بقيادة “الشيطان الأكبر”… إلخ. ومع أن مآل اليساريين في إيران كان كارثياً، فقد كانوا أول وأكبر الضحايا للنظام الديني الصارم الذي ساد بعد الثورة، إلا أن ذلك لم يمنع يساريي الوطن العربي والكثير من يساريي العالم من استمرار دعم نظام الملالي حتى اللحظة، وبصور وأشكال مختلفة، على اعتباره أحد الحصون المتبقية في وجه التوحش الرأسمالي والطغيان الإمبريالي. وفي تناقض ومفارقة لافتة، كان أحد الشعارات الشهيرة المبكرة يتحدث عن إعلان الانحياز التام من المعسكرين المتصارعين آنذاك (لا شرقية ولا غربية)، شعار جذب بعضاً من أبرز مُنظري ما بعد الحداثة للتبشير بهذا النموذج من النظام باعتباره منتجاً فريداً أفلت من هيمنة المركزية الغربية الصانعة لكل النماذج.
علاقة التيار الديني في إيران بنظرائه في العالم العربي قديمة، ويُرجِعها البعض إلى نهاية الأربعينات من القرن الماضي، خصوصا مع تيار الإخوان المسلمين، ولم يكن غريباً أن يكون الإخوان المسلمون أول وفد يَصِل طهران للمباركة لنظام الملالي بنجاح ثورتهم. كانت أبرز محركات الثورة على نظام الشاه المُطالبة بتحسين الأوضاع المعيشية، بعد الثورة مباشرة أعلن آية الله الخُميني أن الثورة لم تقم من أجل بطيخ رخيص، بل في سبيل الإسلام، وهو توجه يتماهى مع توجهات الإسلام السياسي السني من جهة، ومن جهة أخرى يتقاطع مع الشعارات التي تحوم في مدارات التوجه الاشتراكي والأممي.
كان لأفكار سيد قطب تأثير كبير على قادة بارزين في النظام الإيراني، وقد تكفل المرشد الحالي بترجمة كتابات قطب إلى الفارسية وإدراجها ضمن المناهج التعليمية، لكن قادة النظام في إيران رفضوا طلباً أو رجاءً إخوانيا بإعلان نظام خلافة في إيران قائم على تصورات دينية تتجاوز منطقة الصراع بين السنة والشيعة، وعوضاً عن ذلك تم تبني المذهب الاثني عشري الأكثر تشدداً، وبشكلٍ رسمي، كأيديولوجيا يقوم عليها النظام الإسلامي في إيران، كل ذلك لم يمنع الإخوان المسلمين بمختلف فروعهم من الاستمرار في دعم نظام الملالي، وعلى طول الوقت. وبالطريقة نفسها يتم الاستثمار في أسهم القضية الفلسطينية منذ سنوات، شعارات مختلفة ومراوغة، ومواقف عملية متضاربة. حتى الشعار الشهير “الموت لأميركا… الموت لإسرائيل” يبدو أنه صُمِم خصيصاً لاستهداف أمن الدول العربية واستقرارها، فالموت (الإيراني) انحصر في العراق واليمن وسوريا ولبنان فقط.
تغريدات علي خامنئي الأخيرة تناست إستراتيجيته القديمة في إدارة معاركها عن طريق الشعارات المتنوعة والمراوغة، ويبدو أنها عادت إلى الأصل عن طريق تقسيم العالم إلى فسطاطين للشر المطلق والخير الخالص. فالمعسكر اليزيدي -المُعرّف والمحُدد تماماً في الأدبيات الاثني عشرية- هو مصدر كل الشرور والظلم في العالم، وعلى نحوٍ دائم وأبدي، وليس نظام الاستكبار العالمي والشيطان الأكبر سوى أحد إفرازات أو تجليات المعسكر اليزيدي، في مقابل المعسكر الحسيني الذي يحمل لواء الحق والعدل والخير.
يعيش خامنئي في آخر أيامه، فهل تعكس هذه التغريدات زفرات ختامية لتطرف جناح الصقور داخل النظام بعد الضربات المهينة التي تلقاها وكسرت ظهر ادعاءاته وأحرقت ماء وجهه، أم يبدو أن النظام قد استنفد كل ذخيرته من الشعارات في ظل الظروف والتحديات المهولة التي يمر بها، وبات عليه تغيير دفة معارك شعاراته!