د. مصطفى يوسف اللداوي يكتب لـ(اليوم الثامن):

تجار الحروب وأصحاب العقارات في قلب المعركة

كلنا نصبر على ظلم العدو وبغيه، وعلى جرائمه وعدوانه، وعلى أعماله الدنيئة وفعاله القبيحة، وعلى سوء خلقه وخساسة نفسه، لكننا لا نخضع له ولا نركع، ولا نستجيب له ولا نسلم بأمره، ولا نئن أو نصرخ، ولا نجزع ولا نفزع، وإن كنا نتألم ونتوجع، ونحزن ونغضب عندما يقصف بيوتنا ويدمر بلداتنا، ويقتلنا وأبناءنا، ويشردنا وأهلنا، ويرتكب الموبقات في حقنا، وينفذ فينا المجازر والمذابح، ويقتل أطفالنا وصغارنا، ويبقر بطون نسائنا ويجهض الأجنة في أحشائهن، بل نصمد في وجهه ونقاومه، ونتحدى صلفه ونقاتله، ونحط من كبريائه ونذله، ونرفض سياسته ونصمد، ونقاوم طرده ونثبت.

فهذا هو عدونا، وهذه هي طباعه السيئة، وهذه هي سجيته المريضة وفطرته العفنة التي فطر عليها وعرف بها، ونشأ عليها وتربى، وتواصى بها وتعاهد عليها، فهو قاتل ظالم بغي مستبد، محتل مستوطنٌ طاردٌ عنصري، وبغير هذا لا يكون عدواً، ونحن لا ننتظر منه غير ما رأينا وما ذقنا، ولا نتوقع منه رحمةً ولا رأفةً، ولا نرجو منه حباً ولا مودة، ولا نأمل منه عدلاً ولا إنصافاً، ولا مساواةً واعترافاً، والتاريخ يشهد على سيرته الدموية العدوانية معنا، فهو لا ينفك منذ أكثر من عقدٍ من الزمان يحاول السيطرة على أرضنا، والاستحواذ على خيراتنا، وسرقة تراثنا، ونبش قبورنا وبعثرة أجيالنا، وطردنا من أرضنا أحياءً واقتلاعنا منها أمواتاً.

الحمد لله الذي أنجانا من هذا العدو الظالم وخلصنا منه، واستطعنا دحره ومنعناه من تحقيق أهدافه، وأفشلنا مشروعه وبقينا على أرضنا هنا في لبنان شوكةً في حلقه، وصخرةً تتحطم عليها معاوله، وسداً يفشل مشاريعه، ويحبط خططه، وعاد أهلنا إلى بيوتهم ولو أنها مهدمة،وإلى بلداتهم ولو أنها مدمرة، لكنهم عادوا زحوفاً مؤمنةً، وأفواجاً واثقةً بالعز على أرضها، وبالكرامة في ديارها.

وما كان هذا ليتحقق لولا الدماء العزيزة التي سفكت، والأرواح الطاهرة التي زهقت، والمقاومة الصادقة التي ثبتت، والرجال الشجعان الذين قاتلوا، والمرابطون الثابتون الذين صمدوا، وصبر الشعب على ما أصابه ولحق به، واحتماله التشريد والنزوح ومغادرة الديار، والبحث عن ملجأ للعيش في البرد والعراء، وفي الشوارع والميادين، والمدارس ومراكز الإيواء، في ظل القصف الذي يستهدفهم، والغارات التي تلاحقهم، لأن العدو يعلم أن صمودهم سلاحٌ، وأن صبرهم نصرٌ، وأن ثباتهم له فشل، وعودتهم إلى بلداتهم له خزيٌ، ولجيشهم ذل.

لكن العدو الأسوأ الذي لا نصبر عليه ولا نقبل منه، كان في انتظارهم، بل كان يتربص بهم ويتآمر عليهم، ويتمنى أن تطول محنتهم وأن تستمر أزمتهم، وأن تتأخر عودتهم ويطول بهم البقاء بعيداً عن بيوتهم وبلداتهم، فهم يستفيدون من نكبتهم، ويقتاتون على معاناتهم، ويكتنزون سحتاً من دمائهم، أولئك هم شرار الخلق وشراذمة الناس، الذين لا يشبون البشر إلا في أشكالهم، ولا ينتمون إلى الإنسانية إلا بأسمالهم، بينما هم براء من الإنسانية ومن الوطنية، ومارقون من الدين و ينتسبون إليه وإن اسقبلوا قبلتنا وصلوا، وصاموا شهرنا ودعوا بدعائنا.

إنهم السماسرة وأصحاب العقارات وملاك الشقق السكنية، الذين يبتزون المواطنين ويذلونهم، ويخضعونهم إلى قوانينهم أو يشردونهم، ويفرضون عليهم شروطهم أو يطردونهم، ويقسون عليهم ولا يرحمونهم، ويستغلون حاجتهم ويضغطون عليهم، ويفاوضونهم باستعلاء أو يستغنون عنهم، ويساومونهم على الأجرة أو يستبدلونهم، ويتواصون فيما بينهم لئلا يشذ أحدٌ من أصحاب العقارات عن سياستهم، ويخرق بسماحته احتكارهم، ويفقدهم الكسب الحرام الذي حققوه، ويحرمهم من السحت الذي نالوه.

إنهم تجار الحروب وسماسرة الموت، السم الزعاف الذي يسري بيننا، والوحوش الضارية التي تعيش معنا، الذين يظنون أن ما يجمعونه سينفعهم، وأن ما يراكمونه سيخدمهم، وما علموا أنهم يجمعون كد الفقراء وبؤس الأشقياء، ويمتصون دماء الضعفاء، ويشربون عرق الناس، ويحرمون الأطفال من حليبهم، والمرضى من دوائهم، والجياع من طعامهم، هؤلاء الفاسدون المرضى، المرابون الشرهى، شأنهم شأن العدو الذي يوجههم ويشجعهم، لا يختلفون عنه في القتل وابادة، وفي التجويع والحصار، وفي الحرمان والتعذيب.

استغل هؤلاء المارقون أصحاب المكاتب العقارية، وملاك الشقق السكنية، وأصحاب المشاريع العمرانية، حاجة المواطنين الذين دفعوا عنهم ثمن العزة والكرامة، وسددوا فاتورة الشرف والشهامة، وقدموا أرواحهم فداءً لهم، وضحوا بدمائهم في سبيلهم، وأجبروا على ترك بيوتهم التي كانت أعلى عماداً من بيوتكم، ليهنأ غيرهم ويسعد سواهم.

رفعه هؤلاء المحتكرون أجرة البيوت وضاعفوها، وفرضوا شروطاً على المحتاجين لها وبالغوا فيها، وألزموهم بمبالغ مقدمة وضماناتٍ مسبقةٍ، ومن لا يستطيع أخرجوه من البيت عنوةً، وألقوا متاعه وآثاثه البسيط أمامه، وربما استعانوا بالشرطة لطردهم، واحتكموا إلى القوانين الظالمة وغلبوهم بها، وجاؤوا بغيرهم ممن ألجأته الحاجة إليهم، وألزمتهم الظروف بهم.

أيها السادة ولستم بسادة، اعلموا أن من يسكن بيوتكم يرفع شأنكم ويزيد في شرفكم، ويمسح العار من على جبينكم، وهم الذين أبقوا على وجودكم، وحافظوا على هويتكم، وأمنوا أملاككم، وحافظوا على حقوقكم، فأنتم بدونهم لا شيء، فالمال لا يصنع الرجال ولا يخلق لشهامة، بل الرجال هم صناع المال وأهل الشهامة، وغيرهم ربائب الفسق والنذالة، وعما قريب ستجدون أنفسكم في حاجتهم، تتسولون رضاهم، وتسألون عفوهم، فهم كرامٌ أكثر منكم، وأسيادٌ قبلكم، وأطهارٌ لا يشرفهم أن يكونوا أمثالكم، لأنكم رجسٌ ونجاسة، وعارٌ ونذالةٌ، ولولاهم لاستباحكم العدو ونال منكم، وطردكم من عقاراتكم أو دمرها عليكم، لولا أنكم تخدمونه وتنفعونه، وتؤدون عنه دوراً قذراً يتمنى تحقيقه، ألا بئس الناس أنتم، وشؤم الخلق أنتم، يا عاراً نبرأ إلى الله عز وجل منكم ومن شركم.