هيثم الزبيدي يكتب:
المرشد الأعلى الأخير: هل يقترب الحرس الثوري من إنهاء عهد علي خامنئي؟
منذ نهاية الحرب العراقية – الإيرانية إلى اليوم لم تحس إيران بحالة ضعف مثلما تحس بها الآن. في الوقت الذي أمعنت فيه طهران في استعراضها، كانت المطرقة الإسرائيلية والغربية قد ذهبت بعيدا في هدم أسس الحضور الإيراني الإقليمي. أدرك الإسرائيليون أن عملية “طوفان الأقصى”، رغم شعورهم بالصدمة عند حدوثها، هي فرصتهم الكبرى لتوجيه ضربة للإيرانيين تهد ما عملوا على بنائه من أحلاف إقليمية أطلق عليها من بين ما أطلق مسمى “الهلال الشيعي” و”محور الممانعة”. راهنت إيران على أن الفوضى المصاحبة لحالة الهلع التي أصابت المجتمع الإسرائيلي بعد أن أحس الإسرائيليون بالتهديد في قلب بلدهم، ستستمر وستكبر لتتحول إلى حالة انكماش إستراتيجي تستفيد منه إيران أكثر للانتشار إقليميا. فاتهم بالطبع أن الإسرائيليين ومن خلفهم الغرب ينظرون إلى الأمور بطريقة مختلفة تماما، ويعتبرون أن المباغتة يمكن أن تنقلب ضد صاحبها وأن تستثمر معنويا إلى أقصى درجة، بعد أن نظر الغربي العادي فشاهد فلسطينيين ينقضون على إسرائيليين ويقتلون منهم ويأسرون. كل ما كانت إسرائيل تدعيه عن خوفها الوجودي، تجسد كمشاهد فيديو التقطتها أجهزة هواتف مقاتلي حماس وكاميرات المراقبة، قبل أن تبدأ إسرائيل بهجومها المرعب على قطاع غزة وتمعن في إبادة الفلسطينيين. سمع الإيرانيون ما رددوه لأنفسهم، ولم يستمع الغربي العادي لأصوات تنادي بتجريم الهجوم الإسرائيلي وضاع العديد من الأصوات التي تدين قتل المدنيين الفلسطينيين الأبرياء بين أصوات الصراخ الحقيقي والمفتعل التي انطلقت منذ الأسبوع الأول في الرد الإسرائيلي.
هذه الفسحة الزمنية كانت كافية لتغيير الواقع على الأرض، وأدى دخول حزب الله الدعائي على الخط إلى تعقيد الأزمة. وحين كان الفلسطينيون مستعدين للتملص من نتائج هجومهم بعد أن اعتقدوا أنهم حققوا غايتهم الإستراتيجية بأخذ رهائن يقايضون بهم مقابل آلاف الأسرى الفلسطينيين، كان الوقت قد فات وكانت إسرائيل على دراية تامة بما تريد أن تحققه من الحرب: التدمير الكامل لحماس والبنية التحتية في غزة وإطلاق حرب لا هوادة فيها -متى توفرت الفرصة كاملة- لإنهاء حزب الله كظاهرة إيرانية شاذة تتربع على حدودها الشمالية دون رقيب من أي نوع إلا إيران. التقطت إسرائيل رسالة بشار الأسد سريعا وفهمت أنه غير معني بأن يكون طرفا مباشرا في الصراع، وأن أقصى ما يمكن أن يقوم به هو توفير ممر للسلاح الإيراني نحو قوات حزب الله في لبنان. فليس واردا لدى الأسد أن يكافئ الإخوان/حماس على تسببهم في إشعال الحرب الأهلية السورية التي -كما سنرى خلال عام- ستنتهي بإنهاء نظامه كليا.
الحرس الثوري يتحرك الآن لإيقاف الاستعراض البصري لخامنئي واليوم نشاهد مؤسسة الحرس وهي تضع تحت يدها ممتلكات وإمكانية الدولة الإيرانية الخاضعة نظريا لقرار الرئيس والحكومة
فات الإيرانيين التقاط الإشارات وإدراك ما يمكن أن يذهب إليه الإسرائيليون هذه المرة وأن إسرائيل تعتقد أنها دفعت تكاليف الخسائر مقدما وليست بصدد التراجع. هزت إسرائيل بحربيها -الأولى في غزة والثانية في لبنان- أعمدة الارتكاز لحماس وحزب الله. وبحسب شهادات لمقربين من أمين عام حزب الله السابق حسن نصرالله، لم يستوعب الحزب أن الإسرائيليين مستعدون هذه المرة للمضي إلى أقصى مدى. بل إن إيران نفسها غذت الوهم لدى نصرالله بأن حلا سيتشكل في النهاية وأن إسرائيل لن تقتله أو تفعل به ما فعلته بكوادر الحزب أو ببنيته التحتية. هذا القصور في النظرة الإستراتيجية ربما نقلته إيران إلى نصرالله وتركته يعمه بالإحساس بالنصر القادم على طريقة ترك الأمور معلقة، إلى أن بدأت إيران حملتها الحربية الثانية التي جمعت فيها الكثير من عناصر القوة السيبرانية والسلاح المتقدم والرصد الاستخباري. ثم بدأت إسرائيل تضرب وتضرب وتضرب، من دون أن يجد حزب الله ونصرالله، ثم حزب الله وهاشم صفي الدين خليفة نصرالله بعد اغتياله، ثم حزب الله وحده، طريقة لردع إسرائيل. انتهى الأمر بأن وافق حزب الله على وقف إطلاق النار مرغما، بعد أن فقد صفوته القيادية والكوادر وأسلحة، ثم الأخطر والأهم، ثقة بيئته الحاضنة. ضع جانبا ما يقال أمام كاميرات الفضائيات، فالكل يعرف أن من بقي من قيادة الحزب أو أفراده أو “شعب” حزب الله المساند، قد تنفس الصعداء يوم توقفت الحرب.
التقط الأتراك أهمية اللحظة فتحركوا بدورهم. قبل أن يمر أسبوعان، كان حلفاؤهم من هيئة تحرير الشام قد دخلوا دمشق لينهوا حكم آل الأسد. هنا انكسرت أهم حلقة في السلسلة الممتدة من طهران إلى البحر المتوسط. ضُربت إيران -من دون مبالغة- في مقتل. سارع الإيرانيون إلى إنقاذ ما يمكن إنقاذه عندما أخلوا الآلاف من مقاتليهم أو المقاتلين المحسوبين عليهم من العراقيين والأقليات الشيعية المختلفة الموجودة في المنطقة. تجرع الإيرانيون كأس السم مرة أخرى بعد أن تجرعوه حين تم إيقاف الحرب العراقية – الإيرانية. وللمفارقة، فإن المسؤول عن الهزيمة هذه المرة هو نفسه المسؤول عنها عام 1988: آية الله علي خامنئي.
عندما أسند المرشد الإيراني الأعلى آنذاك آية الله روح الله الخميني مهمة قيادة القوات المسلحة الإيرانية لحجة الإسلام علي أكبر هاشمي رفسنجاني رئيس البرلمان في العام الأخير من الحرب مع العراق، كان الخميني يدرك أن الرئيس علي خامنئي أعجز من أن يتمكن من ربح الحرب. لكن رفسنجاني جاء إلى الخميني بأخبار أسوأ: العراقيون قلبوا مسار الحرب لصالحهم، وأن أفضل ما يمكن للإيرانيين الحصول عليه هو عدم الخروج بهزيمة شاملة أمام الجيش العراقي. أقنع رفسنجاني الخميني بوقف إطلاق النار، ثم توفي الخميني بعد أقل من عام، ليجد الإيرانيون أنفسهم أمام مهمة العثور على بديل له كمرشد أعلى، وهي مهمة أو وظيفة أو منصب غير محدد الصلاحيات. افترض الإيرانيون أن ما حصل عليه الخميني من مكانة روحانية وصلاحية في السلطة ينتقل آليا إلى وريثه.
كم كان علي خامنئي محظوظا؛ مرة حين اكتسب كل صلاحيات ومكانة الخميني بسرعة نظرا إلى ظروف وفاة الخميني بعد وقت قصير من انتهاء الحرب، ومرة أخرى عندما أقدم ألد أعداء النظام الإيراني، أي الرئيس العراقي صدام حسين، على غزو الكويت وفسح للغرب مجال تدمير العراق كقوة إقليمية كبيرة، ثم ترك الأمر لسنوات تآكلت فيها قوة العراق من خلال الحرب والحصار، ثم انتهى الأمر بغزو العراق، وهو ما استفادت منه إيران لتتوج كقوة إقليمية كبرى أتقن فيها علي خامنئي اللعبة وأداها كأفضل ما يمكن أن تتم تأديته من دور.
لا بد من الإشارة إلى أدوار مهمة لشخصيات من داخل الحرس الثوري أو من الدائرة المحيطة بالحرس مثل شبكات الحشد الشعبي وحزب الله والحوثيين، بل وحماس، حولت حلم الخميني وكاتالوغ الأداء لعلي خامنئي إلى واقع. ومن دون التوقف طويلا عند الأسماء تكفي الإشارة إلى شخصيات تفترش صورها ساحات طهران مثل عماد مغنية أو قاسم سليماني أو أبومهدي المهندس أو حسن نصرالله أو يحيى السنوار (إسماعيل هنية كان هدفا استعراضيا للمخابرات الإسرائيلية ولم يكن من ضمن أدوات اللعبة الإستراتيجية الكبرى). يرسم قادة الحرس الثوري الإيراني جداريات هؤلاء ليذكّروا خامنئي بأن الحرس بتفرعاته و”تضحياته” هو من صنع الإنجاز الذي جعله “إمبراطورا” على إمبراطورية “الهلال الشيعي” أو “محور الممانعة” أو “موحدا” لما صار يعرف بـ”وحدة الساحات”. لكن علي خامنئي، وكما أخفق في السنة الأخيرة من الحرب العراقية – الإيرانية، أخفق في سنة “طوفان الأقصى” وتسبب بسوء سياسته في إدارة الأزمة والصراع في تبديد شخصيات لا يمكن تعويضها، وعلى وجه الخصوص قاسم سليماني وحسن نصرالله ويحيى السنوار.
فات الإيرانيين التقاط الإشارات وإدراك ما يمكن أن يذهب إليه الإسرائيليون هذه المرة وأن إسرائيل تعتقد أنها دفعت تكاليف الخسائر مقدما وليست بصدد التراجع
الكآبة التي ترتسم على وجوه قادة الحرس كلما جلسوا عند أرجل المرشد الأعلى هي الرد على تساؤل: هل ذهب علي خامنئي بعيدا في تدمير القوة الإيرانية التي بنيت في لحظة استثنائية من التاريخ وعلى حساب كل إيراني يعاني يوميا من تبعات الحصار الغربي والعزلة؟ لا مجال للرد إلا بـ”نعم، لقد ذهب بعيدا.”
يتحرك الحرس الثوري الآن لإيقاف الاستعراض البصري لخامنئي واليوم نشاهد مؤسسة الحرس وهي تضع تحت يدها ممتلكات وإمكانية الدولة الإيرانية الخاضعة نظريا لقرار الرئيس والحكومة اللذين يأتمران –بدورهما- بتوجيه المرشد الأعلى.
نحن نشهد لحظة تاريخية لتفكيك مؤسسة المرشد الأعلى ليكون علي خامنئي آخر مرشد بصلاحيات مطلقة، وأن تفرض مؤسسة الحرس الثوري إرادتها على مؤسسة المرشد الأعلى أيا كان مسماها. وسواء أنفّذ الحرس الثوري انقلابه بشكل مباشر وأعلن عزل المرشد الأعلى -لأسباب صحية أو لأنه كبر أو خرف- أم انتظر أن يتدخل القدر لاستبعاده بالوفاة (وقد سبق أن تدخل القدر لاستبعاد الوريث المرشح القوي إبراهيم رئيسي بحادث المروحية قبل أشهر)، فإن الحرس الثوري يعيد ترتيب بيته الداخلي للسيطرة على الحكم وعدم تركه لكهل نصف مشلول يجلس وهو ينظر إلى أطلال ما تبقى من إمبراطوريته، أو ما سيتبقى مما تبقى منها إذا تحركت إسرائيل أو الغرب لاستكمال توجيه الضربات إلى العراق واليمن.
قبل عام أو أكثر كتبت عن التغيرات الكبرى المحتملة في إيران وأشرت إلى فكرة الاستثمار بعلي شمخاني مستشار الأمن القومي الإيراني الذي أطيح به من منصبه بقرار غير مبرر للمرشد الأعلى وألمحت إلى أن الحرس لن يستمر في السكوت على العبث بمقدراته على أساس أن المرشد بيده الحل والربط. كنت ألمّح إلى أن الحرس يريد التحرك. لكن “طوفان الأقصى” جاء واستعجل الأمور بطريقة مختلفة. ها هو الحرس يضع يده على أهم مفاصل الاقتصاد الإيراني وهو النفط وعائداته. يبدو أن الانقلابات في إيران لا تبدأ إلا من بوابة النفط ومن يضع اليد عليه.