هيثم الزبيدي يكتب:
مفاوضات مسقط: أذرع إيران تحت المجهر باستثناء الحشد الشعبي
تكمن المشكلة الإيرانية التي سبقت انهيار جزء مهم من خريطة “الإمبراطورية”، التي شيدها المرشد الإيراني علي خامنئي تحت راية الحرس الثوري و”فيلق القدس”، في أنها تمددت بأكبر من قدرتها على ترتيب الأمر واستتبابه لها. افترض الإيرانيون أن لديهم قدرات على توجيه مجموعة موالية، أو ما صار يعرف بالذراع، كي يحققوا ما يريدون في تلك الساحة الإقليمية؛ أي صار لديهم “حزب الله” سوري و”حزب الله” يمني و”حزب الله” عراقي بالمستوى الذي برز فيه حزب الله الأصلي في لبنان واستطاع أن يفرض إرادته على البلد، بل وزحف ليستعرض قوته على الإقليم كقوة مقاتلة في سوريا أولا، ثم كخبراء يفترض أنهم لبنانيون، لكنهم في الحقيقة أو بالتدريب خبراء إيرانيون.
مسمى حزب الله السوري جاء خليطا من ميليشيات قادمة عبر الحدود، من العراق وأفغانستان وإيران ومن بين الدول التي لديها حضور ديمغرافي شيعي، مع إضافة قدرات الدولة السورية تحت راية الرئيس السابق بشار الأسد. مسمى حزب الله اليمني معروف واسمه “أنصارالله” وهو الاسم الديني لنعرة دينية قبلية ورثت ما تدعيه الإمامة المتوكلية في اليمن من أحقية دينية في الحكم، لكنها في النهاية راية قبلية اسمها الحوثي. حزب الله العراقي، بكل مسمياته المختلفة من ميليشيات، هو الحشد الشعبي الذي أصبح قوة ضاربة بما تلقاه من تسليح وتمويل ودعم وصل إلى درجة أن القوة الجوية الأميركية تحولت، خلال الفترة التي شهدت الحرب على داعش، إلى ما يشبه القوة الجوية للحشد الشعبي. تم هذا بالرغم من أن المهام القتالية الرئيسية في مواجهة داعش أسندت للجيش العراقي وقوات الأمن العراقية الناشئة آنذاك. استغل الحشد الفرصة لأن يرتب الأميركيون من الجو جغرافيا تدمير أرضية شهدناها في ما حل بالموصل وغيرها. ومع التدمير تمت إعادة توزيع النفوذ على الأرض وفتح الطريق بين الحدود الإيرانية من جهة والحدود السورية من جهة أخرى ليبسط، وللمرة الأولى، الامتداد الجغرافي بين طهران والبحر المتوسط في سوريا ولبنان.
طهران كانت تساوم بالملف النووي لتحافظ على مكاسبها الإقليمية الكبرى: سوريا والعراق واليمن ولبنان وغزة، أما وقد ضاع جزء كبير من المشروع فإن العودة إلى التفاوض تحمل معها خريطة ما تبقى
قضم الإيرانيون أكثر من قدرتهم على الابتلاع. ثم جاءت حماس المختالة بوهم القدرات والصواريخ والمسيّرات والأنفاق لتكون اللقمة الأخيرة في فم الإيرانيين. كان “طوفان الأقصى” لحظة خطأ إستراتيجي مستعجل وفادح لن تسامح إيران نفسها عليه أبدا مهما ادعت أن الأمر تم بإرادة فلسطينية.
استجمعت إسرائيل كل خططها التي جهزتها على مدى سنين من الإعداد والتفكير، خصوصا ضد العدو الأساس، أو رأس الحربة في المشروع الإيراني وهو حزب الله، ثم ضربته -بكل ما تعنيه الكلمة- من حيث لم يحتسب. جهز الحزب أنفاقا وصواريخ لتكرار حرب 2006، وتجهزت إسرائيل بهجوم بقياسات مفصلة لكل عضو من أعضاء حزب الله بجهاز بيجر يرتديه أو ووكي توكي يحمله. وعندما حان الوقت للقصف الثقيل، استفادت إسرائيل من شبكتها المعلوماتية والتجسسية، وضربت كل قيادات الحزب. كانت الضربات قاسية ودقيقة وانتقائية إلى درجة أنك تستطيع أن تقول إن إسرائيل نفسها اختارت ألّا تقتل الأمين العام الحالي لحزب الله نعيم قاسم لتجد من يتحدث باسم الحزب.
استمر القتل والتدمير في غزة بلا أدنى اعتبار إنساني، وقتل “مهندس” الطوفان يحيى السنوار الذي غرق وأغرق غزة معه، بل وصل الإسرائيليون إلى طهران لتصفية رئيس حماس إسماعيل هنية، وإلى بيروت لقتل نائب رئيس حماس صالح العاروري.
فهم الأتراك ما يحدث فتحركوا (أو نسقوا – لا فرق) وانتهى نظام الأسد بأسرع ما يتوقع أي مراقب.
إلى حد تلك اللحظة لم يعرف الإيرانيون مدى انكشافهم الإستراتيجي. حركوا ذراعهم اليمنية بطريقة استعراضية كمن يحرك بيدق الشطرنج لتتبع رد فعل الطرف المقابل. هنا تغيرت المعادلة جزئيا بعد ردود فعل ضعيفة من الإدارة الديمقراطية للرئيس جو بايدن. لكن التغيير سيكون بعودة الجمهوريين للسيطرة على كل مفاصل الحكم في واشنطن.
دخل عامل الرئيس الأميركي الجديد دونالد ترامب ليكسب مشروع تدمير خريطة الامتداد بعدا إضافيا. للأمانة التحليلية، هذه المرة التقط الإيرانيون الرسالة بوضوح وأعادوا تأهيل خطهم المنقذ في مسقط على عجل. اليوم لدى الإيرانيين ما يقولونه عن تفاوض -مباشر أو غير مباشر- مع الأميركيين، وصل اليوم إلى الفقرات الفنية، وهو ما يفتح الباب للمفاوضات وجها لوجه. تغيرت اللهجة الإيرانية بسرعة أيضا. خامنئي نفسه صار يتحدث عن إشارات إيجابية.
عندما تفتح الخارجية الأميركية أوراقها بعد مئة عام ربما من الآن عقب إجراءات رفع السرية، أو بعد أن يبادر مؤرخ عماني إلى قراءة تسجيلات أو محاضر اللقاءات غير المباشرة، أو بعد أن نعجل التاريخ بسقوط نظام طهران وتكشف الملفات، سيعرف المهتمون آنذاك ماذا قدم الإيرانيون وماذا وضعوا على الطاولة من أذرع لاسترضاء واشنطن. لكن ممّا تم تداوله من حديث وتذمر لدى الأذرع، نستطيع أن نقول إن منظومة المرشد – الحرس لم تترك مجالا الآن لأية صدفة: “أنتم أيها الأذرع ما هو مطروح على الطاولة وليس أجهزة التخصيب النووي.”
لم يكن واردا أن تتمكن إيران من تطوير أسلحة نووية. استفادت من هذا الوهم لتمرير مشروعها الأكبر في السيطرة على المنطقة. هكذا أرى الأمر. لربما يجادل البعض بأني أراه معكوسا. لكن أي مراقب لن يتوهم أن يرى تجربة نووية إيرانية، وإن حدثت فإن الرد الأميركي – الإسرائيلي – الغربي سيكون كاسحا. طهران كانت تساوم بالملف النووي لتحافظ على مكاسبها الإقليمية الكبرى: سوريا والعراق واليمن ولبنان وغزة. أما وقد ضاع جزء كبير من المشروع، فإن العودة إلى التفاوض تحمل معها خريطة ما تبقى.
بالنسبة إلى إيران انتهى المشروع السوري بلا عودة، وأفضل حظوظ حزب الله هو البقاء كحزب سياسي في لبنان، ولا يزال مصير الحوثيين على المحك ويرتبط بمدى رغبة الأميركيين في التصعيد معهم إلى مستوى تدمير قدراتهم أو استهداف قياداتهم بطريقة قطع الرأس كما جرى في لبنان.
القوة الوحيدة المعتبرة التي نجت إلى حد الآن هي الحشد الشعبي. وبالنظر إلى أهمية العراق وإمكانياته، فإن قدرات هذه القوة تتضاعف خصوصا إذا احتسبنا مستوى تغلغلها السياسي والإداري والاقتصادي في البنية العراقية.
يضع الإيرانيون كل الأذرع الأخرى على الطاولة، لكنهم سيترددون مرات ومرات قبل طرح موضوع الحشد الشعبي. العراق كان جوهرة التاج في “الإمبراطورية” الإيرانية. وتريد إيران الحفاظ على هذا المكسب المتبقي بعد أن ضاع الكثير، وما تبقى هو في طريقه إلى الضياع.
إسرائيل استجمعت كل خططها التي جهزتها على مدى سنين من الإعداد والتفكير، خصوصا ضد رأس الحربة في المشروع الإيراني وهو حزب الله، ثم ضربته -بكل ما تعنيه الكلمة- من حيث لم يحتسب
ما المطلوب من الحشد الشعبي مقابل أن تناور إيران بالملف النووي وتحاول إقناع الأميركيين بصدق نواياها وإلهاءهم بالتفاصيل، وخصوصا تفاصيل ملف العقوبات والنفط مقابل “التضحية” بالتكنولوجيا النووية؟ المطلب مررته إيران على لسان أكثر من زعيم ميليشيا من أذرعها الصغيرة والكبيرة في العراق: “أن نمثل دور المستسلم لسلطة الدولة العراقية وأن نتحول إلى أحزاب سياسية وأن نذوب في النسيج السياسي العراقي.” ما تريده إيران هو فسحة زمنية مدتها أربعة أعوام، عليها أن تشتريها بأي ثمن إلى حين رحيل دونالد ترامب عن البيت الأبيض.
من وجهة نظر إيرانية، فإن النظام في طهران يحكم منذ أكثر من أربعين عاما، منها أكثر من 35 عاما تحت ظل راية خامنئي، في حين مرت أربعة أعوام من حكم ترامب، ثم انشغلت أميركا بأربع سنوات أخرى من ضوضاء ترامب، وها هو يعود إلى أربع ثانية. لكنه في النهاية سيرحل. ولا أحد يجادل بأن هناك ترامب واحدا لن يتكرر. على طهران أن تنحني لعاصفة ترامب كي تنجو. بعد رحيله لكل حادث حديث، سواء أكان من يرثه رئيسا جمهوريا يستفيد من “معجزات” ترامب الاقتصادية، أم إدارة ديمقراطية تعيد -كما فعل بايدن- عقارب الساعة إلى الوراء.
في وجه من وجوهه، هذا ما هو مطروح على الطاولة في مسقط. انتهى عصر الأذرع فلا بأس من التضحية بها مهما أوحت إيران بالعكس؛ ولكن إلا خسارة الحشد الشعبي. خسارة الحشد الشعبي الآن كارثية لإيران لأنها تعني فقدان كل ما بنته منذ انتهاء الحرب العراقية – الإيرانية، بل منذ إطلاق مشروع تصدير الثورة يوم وصل آية الله الخميني إلى طهران والحكم. معركة بقاء الحشد الشعبي مصيرية خصوصا بعد انفصام شخصية الدولة العراقية بجزء يريد أن يستعيد بعضا من وهج العراق كما يوحي رئيس الحكومة محمد شياع السوداني، وآخر يصر على حكم العراق تحت مظلة “الإطار” -أي الحشد وإيران- كما يوحي رئيس الوزراء الأسبق نوري المالكي. أي تصريح أو حديث عن تفاصيل فنية تقنية ونووية وعن أذرع بين طهران وواشنطن، لا تهدف إيران منهما إلا إلى التشويش على هدفها الحقيقي في حماية درة تاج استثماراتها التوسعية.