محمد النصراوي يكتب لـ(اليوم الثامن):
البرلمان العراقي بين النص الدستوري والممارسة السياسية
يُعد البرلمان العراقي، كأي سلطة تشريعية في الأنظمة الديمقراطية، القلب النابض للعملية السياسية، ودوره الأساسي يتمثل في تمثيل إرادة الشعب عبر سن القوانين والرقابة على أداء الحكومة، فوفقاً للدستور العراقي، تُناط بالنائب مسؤوليةٌ جسيمة تتمثل في التشريع، عبر اقتراح مشاريع قوانين تلامس حاجات المواطنين، والرقابة، عبر استجواب المسؤولين ومتابعة تنفيذ البرامج الحكومية لضمان تحقيق العدالة وتقديم الخدمات؛ لكن، وعلى الرغم من أهمية هذا الدور، تشهد الساحة البرلمانية في العراق بروز ظاهرتين تستدعيان التحليل والنقاش، وهما تقديم مقترحات قوانين غير عملية، وتجاوز المهام التشريعية والرقابية نحو الانشغال بمهام تنفيذية.
تتمثل الظاهرة الأولى في تقديم بعض النواب لمقترحات قوانين لا تتوافق مع الأولويات الملحة للمواطن أو تكون غير قابلة للتطبيق على أرض الواقع، ففي الوقت الذي يئن فيه المواطن من أزمات حقيقية مثل نقص الخدمات، البطالة، وتدهور البنى التحتية، يُطرح في المقابل مشروع قانون يهدف إلى تغيير اسم شارع أو مدينة أو يُقدم مقترح لإنشاء هيئة مستقلة لمهمة هامشية، هذه المقترحات، التي قد تبدو للوهلة الأولى مبادرات جيدة، غالباً ما تكون مجرد محاولات لكسب الشعبية أو إظهار النشاط البرلماني دون تركيز حقيقي على قضايا جوهرية، هذه الممارسات لا تهدر الوقت والجهد البرلماني فحسب، بل تُرسل أيضاً رسالة سلبية للمواطن بأن ممثليه لا يدركون حجم معاناته، مما يزيد من حالة عدم الثقة في العملية السياسية.
أما الظاهرة الثانية، والأكثر خطورة، فهي انشغال بعض النواب بمهام تتجاوز صلاحياتهم التشريعية والرقابية وتتجه نحو العمل التنفيذي، فبدلاً من ممارسة دورهم الرقابي على أداء الوزارات والمؤسسات الحكومية، يتدخل بعض النواب بشكل مباشر في تعيين الموظفين، إدارة المشاريع الخدمية، أو حتى المطالبة بتوفير خدمات معينة لمنطقة أو فئة معينة، هذا التدخل، الذي يُبرر أحياناً بالسعي لخدمة الناخبين، يُحدث تداخلاً خطيراً في الصلاحيات بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، هذه الممارسات تؤدي إلى إضعاف دور المؤسسات الحكومية، وتُعزز من ثقافة الاعتماد على الوساطة والمحسوبية بدلاً من الاستحقاق والكفاءة، كما أنها تُشتت تركيز النائب عن مهامه الأساسية، مما يُضعف بدوره العملية التشريعية والرقابية ككل.
تكمن الأسباب وراء هذه الممارسات في عدة عوامل، أولها هو السعي للشعبية، حيث يرى بعض النواب أن التدخل في المهام التنفيذية وتقديم "خدمات" مباشرة للناخبين هو أسرع طريق لكسب الرضا وضمان الفوز في الانتخابات القادمة؛ السبب الثاني ضغط الكتل السياسية على النواب، حيث قد يضطر النائب إلى تبني أجندات لا تخدم المصلحة العامة بقدر ما تخدم مصالح كتلته، كما تُعد قلة الخبرة السياسية لدى بعض النواب سبباً آخر، حيث يجدون صعوبة في التمييز بين الأدوار والمهام، فيلجأون إلى ما يظنونه أكثر فعالية.
إن الآثار السلبية لهذه الظواهر عميقة وواسعة، فهي تؤدي إلى إضعاف النظام الديمقراطي عبر التداخل في الصلاحيات، وتُعيق تقديم الخدمات بشكل عادل ومنظم، وتُغذي الفساد عبر خلق بيئة خصبة للمحسوبية والوساطة، والأهم من ذلك، أنها تُفقد البرلمان هيبته ودوره كمؤسسة وطنية عليا، وتحوله في نظر الكثيرين إلى ساحة للمصالح الشخصية والفئوية.
إن تصحيح مسار العمل البرلماني في العراق يتطلب جهوداً جماعية، تبدأ من وعي الناخب بأهمية اختيار ممثليه على أساس الكفاءة والبرنامج السياسي لا المصالح الضيقة، كما يتطلب من الكتل السياسية أن تُعطي الأولوية لمصلحة الوطن على مصالحها الحزبية، ويقع على عاتق النواب أنفسهم مسؤولية الالتزام بالدستور وممارسة أدوارهم الأساسية في التشريع والرقابة، بعيداً عن أي تدخلات تنفيذية، فهل سيعود البرلمان العراقي إلى دوره الأساسي كمركز للتشريع والرقابة، أم سيستمر في حالة التداخل مع السلطة التنفيذية؟ وهل سيتجه النواب إلى تقديم قوانين تلامس واقع المواطن، أم سيستمرون في طرح مقترحات بعيدة عن أولوياته؟ هذه أسئلة تتطلب إجابات عملية لضمان مستقبل سياسي أفضل للعراق.