د. أسماء الرواحنة تكتب لـ(اليوم الثامن):
الخيار الثالث.. أفق جديد لشعوب المنطقة في مواجهة استبداد طهران
منذ عقود ونحن نعيش في منطقة عربية وإسلامية متخمة بالصراعات، لم تكن نتاجًا لعوامل داخلية بقدر ما كانت انعكاسًا لتشابك مصالح إقليمية ودولية، وتوظيف الدين أحيانًا كأداة للهيمنة، وقمع الحريات، وتفتيت المجتمعات. في خضم هذا الواقع المأزوم يبرز سؤال التنوير، وكيف يمكن أن نعيد للعقل العربي والإسلامي دوره الريادي ليكون سلاحًا في مواجهة التضليل والاستبداد. وحين نتحدث عن التنوير فإننا لا نغفل أن مواجهة أنظمة مثل النظام الإيراني تمثل اختبارًا حقيقيًا لقدرة الأمة على استعادة زمام المبادرة، ذلك أن إيران لم تكن في يوم من الأيام دولة ذات هيبة أو شرعية راسخة، بل نظامًا يقوم على القمع الداخلي وتصدير الأزمات للخارج.
النظام الإيراني الذي سعى منذ عام 1979 إلى فرض نفسه كقوة إقليمية، اعتمد في ذلك على أدوات متعددة، بدءًا من تصدير الثورة عبر الأذرع المسلحة كحزب الله في لبنان والحشد الشعبي في العراق، وصولًا إلى تمويل الميليشيات والتدخل في الشؤون الداخلية لدول المنطقة. غير أن هذه السياسات لم تمنحه شرعية حقيقية، بل صنعت له صورة قائمة على الخوف والابتزاز. وإذا كانت إيران قد استطاعت في لحظات تاريخية أن تحافظ على مساحة نفوذ بفضل توازنات إقليمية أو غطاء دولي متسامح، فإن الزمن الراهن يكشف هشاشة تلك الصورة. فما فقد من هيبة لا يمكن استعادته، وما كان بالأمس ممكنًا لم يعد متاحًا اليوم. حزب الله لم يعد تلك القوة التي ترعب الداخل والخارج، ولبنان نفسه لم يعد كما كان. العراق أيضًا يشهد تراجعًا في الولاء لطهران، والحشد الشعبي لم يعد في وضع يمكّنه من فرض وصايته كما في السابق. وحتى إذا حاول النظام الإيراني التمسك بأذرعه، فإن القادم يحمل مفاجآت قد تعصف بما تبقى من نفوذ، خاصة في ظل مؤشرات عودة التنظيمات الإرهابية مثل داعش، وهو ما قد يفتح جبهات جديدة لا قدرة للنظام على السيطرة عليها.
على الصعيد الدولي تبدو خيارات النظام الإيراني محدودة، وهو يقاتل على أكثر من جبهة. داخليًا يواجه غضبًا شعبيًا متصاعدًا، وإعدامات متكررة، وانتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان، وصمتًا دوليًا يثير الاستغراب. خارجيًا يحاول أن يراوغ في الملف النووي ليحصل على مكاسب تفاوضية، لكنه في الواقع وقع في مأزق أشد خطورة. فالمماطلة التي مارسها طوال سنوات لم تعد تجدي، والحرب القصيرة التي أراد أن يوظفها لمعاقبة الغرب انتهت بنتائج عكسية، إذ أعادت تفعيل آلية الزناد وأعطت المبرر لمزيد من الضغوط الدولية. النظام إذن يقف بين مطرقة الداخل وسندان الخارج، وهو وضع لا يمكن أن يستمر طويلًا دون أن يدفعه إلى الزوال.
من يعرف مسار المعارضة الإيرانية يدرك أن الصراع مع هذا النظام لم يبدأ اليوم. منظمة مجاهدي خلق والمقاومة الإيرانية تخوض معركة ممتدة منذ أكثر من أربعة عقود. منذ أن صادر النظام الثورة الوطنية الإيرانية بدعم من قوى غربية، وهو يحاول القضاء على كل صوت معارض. استُخدمت كل الوسائل الإعلامية والمالية والأمنية والعسكرية لتشويه صورة المعارضة، لكن الفكر لا يموت. كما لم يستطع الشاه أن يقضي على مجاهدي خلق قبل 1979، لم ينجح الملالي في محوهم رغم كل الفتاوى والمجازر. يكفي أن نستحضر مأساة صيف 1988 حين أُعدم أكثر من ثلاثين ألف سجين سياسي بفتوى مباشرة من الخميني، لندرك أن ما واجهته المعارضة لم يكن مجرد تضييق سياسي بل محاولة إبادة ممنهجة. ومع ذلك استمرت الحركة، وبقيت روح الثورة الإيرانية حية في قلوب المعارضين.
لقد كان لي شرف الاطلاع المباشر على واقع المقاومة الإيرانية، وزيارة أشرف 3، حيث التقيت رجالًا ونساءً جعلوا من النضال ضد الاستبداد قضية حياة. من بين ما ترك في نفسي أثرًا بالغًا هو تجربة نساء مجاهدي خلق. هؤلاء النسوة قدمن صورة مغايرة تمامًا لما يحاول النظام تصديره عن المرأة. بدلًا من الصورة النمطية للمرأة الضعيفة الخاضعة، وجدنا نساء قائدات، منظمات، يتحملن أعباء سياسية وتنظيمية ويقدن الصفوف الأولى. هنّ مثال للشجاعة والتضحية والإيمان بقضية الحرية والعدالة، ووجودهن في الخطوط الأمامية يبعث برسالة قوية مفادها أن التغيير في إيران لن يكون حكرًا على الرجال، وأن النساء شريكات في صياغة المستقبل. لقد أثبتن أن المرأة ليست ضحية الاستبداد فحسب، بل هي أيضًا القوة الدافعة لإسقاطه.
هذا الدور تجلى أيضًا في الفعاليات الدولية التي نُظمت دعمًا للمقاومة الإيرانية. مظاهرات بروكسل الأخيرة كانت مشهدًا فريدًا للتضامن العالمي مع الشعب الإيراني. عشرات الآلاف من مختلف الجنسيات اجتمعوا ليقولوا لا لنظام القمع. الحضور اللافت لشخصيات دولية مثل مايك بنس أعطى لهذه المظاهرات وزنًا سياسيًا وإعلاميًا، لكنه أيضًا كشف أن المقاومة الإيرانية لم تعد محصورة في الداخل، بل باتت تحظى بدعم حقيقي من قوى سياسية عالمية. الأهم من ذلك كان الحضور النسائي البارز في تلك المظاهرات. نساء في مقدمة الصفوف، يحملن الأعلام، يرفعن شعارات الحرية، ويعرضن صور الضحايا. ذلك المشهد لم يكن مجرد مشاركة رمزية، بل رسالة بأن النساء هن قلب المقاومة وروحها، وأن المستقبل لن يُكتب إلا بمشاركتهن الفاعلة.
حين نتأمل برنامج المقاومة الإيرانية وخياراتها السياسية ندرك أننا أمام رؤية متكاملة وليست مجرد رد فعل. السيدة مريم رجوي قدمت ما يُعرف بالخيار الثالث، وهو طرح يتجاوز الثنائية التقليدية بين الحرب أو بقاء النظام. هذا الخيار يقدم للشعب الإيراني مخرجًا من ويلات الاستبداد دون أن يفتح الباب أمام تدخل خارجي مدمّر. وهو في الوقت ذاته يضع برنامج النقاط العشر كخريطة طريق لإيران جديدة تقوم على المواطنة والحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان. هذا البرنامج لا يمثل فقط خلاصًا للإيرانيين، بل هو أمل لشعوب المنطقة التي عانت طويلًا من التدخلات الإيرانية.
إن ما تحتاجه هذه الطروحات هو جدية المجتمع الدولي، والتخلي عن سياسات المماطلة والمرونة التي لم تؤد إلا إلى إطالة عمر النظام. التغيير الحقيقي يجب أن يأتي من الداخل، من خلال مقاومة شعبية حقيقية، لكن دعم المجتمع الدولي لهذا التوجه يظل عنصرًا حاسمًا في حسم المعركة. إذا كان الغرب صادقًا في شعاراته عن الديمقراطية وحقوق الإنسان، فإن الخيار الثالث وبرنامج النقاط العشر يمثلان الطريق الواقعي لدعم تلك الشعارات بالفعل لا بالقول.
لا يمكن أن نفصل هذه القضايا عن المشهد الأوسع في منطقتنا العربية والإسلامية. فالتنوير الذي نطمح إليه لا يقتصر على محاربة الجهل والتضليل، بل يتسع ليشمل مواجهة الأنظمة التي تقوم على الاستبداد وتوظيف الدين لأهداف سياسية. إن إيران ليست مجرد دولة جارة، بل نظام توسعي يقوم على تفتيت الدول وزرع الفتن واستغلال الأقليات الدينية والسياسية لتثبيت هيمنته. مواجهة هذا المشروع واجب عربي وإسلامي قبل أن يكون مطلبًا دوليًا.
لقد علمتنا التجارب أن الشعوب لا تُهزم إذا امتلكت وعيها. والوعي هو السلاح الأقوى في معركتنا الراهنة. لسنا بحاجة إلى مزيد من الشعارات، بل إلى التزام عملي يعيد الاعتبار للحرية والعدالة كقيم أصيلة في حضارتنا. وحين نقول إن النساء أقل فسادًا وأكثر التزامًا، فإن ذلك ليس شعارًا بل حقيقة أثبتتها تجارب المقاومة من داخل إيران وخارجها. النساء في إيران وفي كل المنطقة قادرات على أن يكن شريكات في صياغة مستقبل مختلف، شرط أن يُكسر القيد الذي فُرض عليهن طويلًا.
إن معركتنا ليست فقط مع نظام بعينه، بل مع ثقافة الاستبداد والتضليل. ولا سبيل لكسر هذه الثقافة إلا بالتنوير الذي يبدأ من الوعي الفردي ويكبر ليصبح حركة مجتمعية واسعة. وهذا ما نحتاجه اليوم ونحن نرى منطقتنا أمام مفترق طرق. إما أن نستسلم لدوامة العنف والتفكك، أو نؤمن بأن التغيير ممكن إذا اجتمعنا حول قيم الحرية والمواطنة والعدالة.
إنني أرى أن المقاومة الإيرانية، رغم كل ما واجهته من تضحيات، تقدم لنا درسًا بليغًا: أن الاستبداد مهما طال أمده لا يدوم، وأن الشعوب قادرة على إعادة كتابة تاريخها إذا امتلكت العزيمة. والخيار الثالث، بما يحمله من رؤية سياسية ناضجة، قد يكون بداية الطريق نحو شرق أوسط مختلف، شرق أوسط لا تحكمه معادلات الهيمنة والابتزاز، بل توازنات قائمة على إرادة الشعوب.
بهذا المعنى، فإن معركتنا مع نظام إيران ليست شأنًا إيرانيًا داخليًا فحسب، بل هي جزء من معركة الأمة كلها لاستعادة صفوتها ومكانتها. فالأمة التي تستعيد وعيها قادرة على أن تواجه كل التحديات، مهما تعقدت. وما نحتاجه اليوم هو أن نكون جميعًا في صف التنوير، أن نكسر قيود الخوف، وأن نعيد الاعتبار لقيمنا الأصيلة التي قامت عليها حضارتنا. عندها فقط يمكن أن نقول إننا على طريق الخلاص.