هاني مسهور يكتب:

الواقعية السياسية في اختبار التاريخ.. من تجارب السادات إلى شجاعة الإمارات

منذ أن انضمت دولة الإمارات إلى الاتفاقيات الإبراهيمية عام 2020، انقسم المشهد العربي بين من رآها خيانة وبين من أدرك أنها إنقاذ من نوع آخر. لم يكن التطبيع آنذاك استسلامًا، بل محاولة شجاعة لإعادة تعريف السياسة العربية في عالم تغيّر تمامًا، ولإخراج القضية الفلسطينية من عزلة الشعارات إلى واقع الفعل الممكن. كان قرارًا استراتيجيًا يستند أولًا إلى مفهوم السيادة الوطنية الإماراتية، ثم إلى فهم عميق لمعنى الواقعية السياسية، بعد أن أنهكت الشعوب سلسلةُ الهزائم التي صنعتها الأوهام القومية والراديكالية الإسلامية على مدى قرن.

أثبتت التجربة أن الخطاب القومي والإسلامي الراديكاليين فشلا لأنهما قاما على نفي الآخر لا على فهمه، وعلى شعارات لا على برامج. من نكبة 1948 إلى نكسة 1967 مرورًا بالحروب التي مزّقت المنطقة، كانت النتيجة واحدة: تراجع فلسطين وتشتت العرب. ولأن الخطاب الراديكالي لا يعيش إلا على الكراهية، فقد صنع أعداءه في كل اتجاه، حتى صار الفلسطيني أسيرَ حلفاءٍ لا يريدون له السلام. جاءت الإمارات في لحظة الإنهاك لتقول إن الواقعية السياسية ليست عيبًا بل فضيلة، وأن السياسة العربية تحتاج إلى العقل بعد أن استهلكها الغضب.

تلك الواقعية ليست غريبة عن التاريخ العربي الحديث. الرئيس أنور السادات أدركها مبكرًا عندما ذهب إلى كامب ديفيد، في خطوة كسرت التابوهات وأعادت لمصر سيادتها على أرضها. وبعده جاء اتفاق وادي عربة ليؤكد أن السلام الممكن أفضل من حرب أبدية، ثم جاءت أوسلو الفلسطينية محاولةً لاستعادة الأمل وسط حطام الانتفاضات والانقسامات. واليوم، تواصل الإمارات المسار ذاته، واضعةً اتفاقيات إبراهيم في سياق استراتيجي يرى أن حضور العرب في معادلة السلام أهم من انسحابهم منها، وأن القضايا لا تُحل بالرفض وإنما بالتأثير.

لم يكن التطبيع تنازلًا بل الخطوة الأكثر جرأة في تاريخ العرب الحديث لأنها قالت ما عجزت الأجيال عن قوله: إن العرب لا يخسرون حين يصنعون السلام بل حين يتأخرون عن صناعته

منذ 2020، لم تتعامل الإمارات مع التطبيع كحالة دبلوماسية منفردة، بل كمنظور شامل لإعادة توازن المنطقة. وحين انفجرت حرب غزة في السابع من أكتوبر 2023، كانت تلك الاتفاقيات أمام اختبار النار. راهن كثيرون على سقوطها، لكن الإمارات لم تتراجع؛ أدانت الانتهاكات ضد المدنيين، ودعت إلى وقف إطلاق النار، لكنها تمسكت في الوقت ذاته بقنواتها الدبلوماسية المفتوحة، لأن من يمتلك الحوار يمتلك النفوذ. وهنا تجلت فكرة الدولة لا الحركة، والعقل لا الاندفاع. لقد أثبتت الإمارات أن “السلام” ليس شعارًا بل هندسة طويلة النفس، قادرة على الصمود في وجه الصدمات.

تجلت الشجاعة الإماراتية في أسمى صورها خلال لقاء وزير الخارجية الشيخ عبدالله بن زايد آل نهيان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو على هامش اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة عام 2025. لم يكن اللقاء بروتوكوليًا ولا مجاملة سياسية، بل موقفًا مبدئيًا عبّر فيه الوزير الإماراتي بوضوح أن أي نية إسرائيلية لضم أجزاء من الضفة الغربية ستكون بمثابة خط أحمر، وأنها ستعني خسارة الاتفاقيات الإبراهيمية. لم يكن هذا التحذير دفاعًا عن اتفاق دبلوماسي فحسب، بل دفاعًا عن منطق العدالة ذاته، وعن الفكرة التي قامت عليها مبادرة الإمارات: أن السلام لا يمكن أن يقوم على الاحتلال، وأن الأمن الحقيقي لإسرائيل لا يتحقق إلا بوجود دولة فلسطينية قابلة للحياة.

كان ذلك اللقاء تتويجًا لنهج سياسي نادر في المنطقة، حيث لا تختبئ الدبلوماسية خلف المجاملات، بل تمارس شجاعتها في العلن. فمنذ بداية التطبيع، حرصت الإمارات على أن تظل القضية الفلسطينية جزءًا من مضمون السلام لا ضحيته، مؤكدة أن التطبيع لا يعني التغاضي عن الحقوق بل توظيف العلاقات للدفاع عنها بفاعلية. لقد دخلت أبوظبي مرحلة السياسة الواقعية من أوسع أبوابها، واضعةً العرب مجددًا في مركز التفاعل الدولي بعد عقود من العزلة.

الذين يهاجمون الإمارات يغفلون أن خطاب الرفض المطلق لم يحمِ فلسطين يومًا، بل جعلها رهينة الانقسام والوصاية، وأن الخطاب الديني المسلح لم يجلب سوى الدمار لمجتمعاته قبل غيرها. الواقعية الإماراتية لم تأتِ بديلًا عن المقاومة، بل بديلًا عن العبث. فهي لا تنكر المظالم، لكنها ترفض الانتحار السياسي الذي كرّسته المزايدات، وتقدّم بديلًا عقلانيًا عنوانه: “القدرة على التفاوض أقوى من التهديد بالزوال”.

في خضم كل ذلك، قدّمت الإمارات العربية المتحدة مساعدات إنسانية إلى قطاع غزة تجاوزت قيمتها 1.8 مليار دولار أميركي، وبلغ حجمها أكثر من 90 ألف طن من الإمدادات الإنسانية، وذلك ضمن عملية “الفارس الشهم 3”. بهذا المعنى، لم تكن الاتفاقيات الإبراهيمية بالنسبة لأبوظبي أداة سياسية فحسب، بل جسراً لتمرير الحياة إلى سكان غزة، انطلاقًا من فلسفة واقعية ترى أن إشعال شمعة في عتمة الظلام خير من بيع الأوهام.

في زمن انهارت فيه الأيديولوجيات الكبرى، برزت الإمارات كصوت للعقل العربي المستنير، الذي يعرف أن الشعوب لا تعيش بالشعارات بل بالاستقرار، وأن الكرامة لا تُصان في العزلة بل في المشاركة

من كامب ديفيد إلى وادي عربة إلى أوسلو وصولًا إلى اتفاقيات إبراهيم، هناك خيط عربي واحد لم يُقطع: أن الشجاعة الحقيقية ليست في خوض الحرب، بل في امتلاك الجرأة على صنع السلام. هذه الاتفاقيات ليست استثناء، بل امتداد لمسار تاريخي أدرك أن الحروب الكبرى انتهت إلى كوارث، وأن التوازن الدولي لا يُكسر بالشعارات.

حين تعود المنطقة إلى البحث عن حلول دائمة، يبرز الموقف الإماراتي كأكثر المواقف العربية اتزانًا ونضجًا. فبينما تتسابق القوى الإقليمية على توسيع نفوذها بالدم، تبني الإمارات نفوذها عبر الثقة والاحترام المتبادل. وحين يتحدث الدكتور أنور قرقاش عن أن “الآراء المتطرفة تجاه القضية الفلسطينية لم تعد صالحة”، فهو يلخص جوهر المدرسة الإماراتية في السياسة الخارجية: العقل قبل العاطفة، والواقعية قبل الشعارات.

الخطاب العربي القديم الذي عاش على الحنين إلى الماضين الناصري والبعثي فقد قدرته على الإقناع. فلا المجازر باسم “الوحدة” حققت وحدة، ولا الحروب باسم “المقاومة” أوقفت الاحتلال. ما تحقق فعلاً هو أنها أفرغت العالم العربي من صوته، حتى جاء الصوت الإماراتي ليعيد للعقل مكانته.

تلك هي المفارقة التاريخية: أن الدولة التي وُصفت بالتحديث المفرط أثبتت أنها أكثر تمسكًا بالجوهر العربي من أولئك الذين رفعوا شعارات العروبة. لأن الإمارات لم تساوم على فلسطين، بل أنقذتها من أن تصبح قضية منسية. ولأنها لم تُطبّع لتُرضي أحدًا، بل لتفرض معادلة جديدة: أن السلام ليس خضوعًا بل حضور، وأن القوة لا تعني الحرب بل القدرة على صناعة التوازن.

في زمن انهارت فيه الأيديولوجيات الكبرى، برزت الإمارات كصوت للعقل العربي المستنير، الذي يعرف أن الشعوب لا تعيش بالشعارات بل بالاستقرار، وأن الكرامة لا تُصان في العزلة بل في المشاركة. وهكذا، فإن الشجاعة التي تجلت في اتفاقيات إبراهيم عام 2020 بلغت ذروتها بلقاء الشيخ عبدالله بن زايد بنتنياهو عام 2025، لتقول بوضوح إن السلام خيارنا، لكن العدالة شرطه.

دفعت المنطقة ثمنًا باهظًا لتجارب الشعارات والدماء، وحان الوقت لأن يُستعاد دور السياسة. الإمارات لم تغيّر موقعها من فلسطين، بل غيّرت أدوات الدفاع عنها. وإذا كانت الواقعية السياسية قد أصبحت مرادفًا للشجاعة، فذلك لأن الإمارات جعلتها كذلك: شجاعة القرار، لا شجاعة الخطابة؛ شجاعة الفعل، لا شجاعة الرفض.

بهذا المعنى، لم يكن التطبيع تنازلًا، بل الخطوة الأكثر جرأة في تاريخ العرب الحديث، لأنها قالت ما عجزت الأجيال عن قوله: إن العرب لا يخسرون حين يصنعون السلام، بل حين يتأخرون عن صناعته.