رولا القط تكتب لـ(اليوم الثامن):
البحر الأحمر بعد اتفاق شرم الشيخ.. بين الوهم والفرصة
في عام 2025، وقّع قادة إقليميون ودوليون في مدينة شرم الشيخ اتفاقًا طموحًا قيل إنه سيفتح صفحة جديدة من الاستقرار والتعاون في الممرات البحرية التي تحيط بالبحر الأحمر، ذلك البحر الذي تحوّل في السنوات الأخيرة إلى مسرح مفتوح للتهديدات والصراعات والمنافسة الجيوسياسية. جاء الاتفاق في لحظةٍ كان فيها الأمن البحري يترنح تحت وطأة الهجمات الحوثية المتكررة، والاختطافات، والألغام العائمة، والعمليات الإرهابية التي أرهقت السفن التجارية وأربكت شركات النقل والتأمين العالمية. لقد كانت حادثة السفينة “Eternity C” مثالًا مأساويًا على فشل المجتمع الدولي في حماية هذا الشريان البحري الحيوي، إذ تحولت من حادثة اختطاف إلى كارثة إنسانية واقتصادية أثارت المخاوف بشأن مصير الملاحة في المنطقة بأكملها.
الانعكاسات الاقتصادية كانت فورية وعميقة، إذ اضطرت شركات الشحن إلى رفع أقساط التأمين وتغيير مساراتها نحو طرق أطول وأكثر كلفة عبر رأس الرجاء الصالح، في حين تأثرت الدول التي تعتمد على صادراتها ووارداتها عبر هذا البحر الاستراتيجي، وتراجعت إيرادات قناة السويس مع انخفاض أعداد السفن العابرة. أصبح البحر الأحمر عنوانًا للأزمة، لا فقط الأمنية بل الاقتصادية أيضًا، في ظل تزايد الشكوك حول قدرة الدول المطلة عليه على تأمينه دون دعم خارجي. ورغم تمسك دول المنطقة بمبدأ “الأمن الإقليمي بالقيادة الإقليمية”، فإن الواقع كشف عن ضعف التنسيق العملي، وتفاوت القدرات التقنية والعسكرية، وتعدد المصالح والولاءات داخل الإقليم نفسه.
اتفاق شرم الشيخ حاول معالجة هذه المعضلة من خلال بناء منظومة تعاون إقليمي ودولي، تعزز التنسيق وتعيد الثقة إلى الممرات البحرية. أراد الاتفاق أن يكون نقطة تحول، تضع نهاية للهجمات وتفتح الباب أمام ممرات آمنة، وتعيد التوازن بين حماية السيادة الوطنية وحماية المصالح العالمية. إلا أن طريق التنفيذ بدا أكثر تعقيدًا من التوقيع ذاته، فالمعضلات الأمنية والسياسية لم تتراجع، والمشهد الإقليمي ظل مفتوحًا على احتمالات التصعيد في اليمن وغزة، بينما بقيت القوى الكبرى منقسمة حول طبيعة التدخل وأهدافه.
إن التحدي الأكبر أمام الاتفاق ليس في بنوده المكتوبة بل في قدرة الأطراف على الالتزام بها. فبعض الفاعلين الرئيسيين في ساحة البحر الأحمر ليسوا دولًا بل جماعات مسلحة خارج أي التزام قانوني، والآلية الرقابية التي يفترض أن تتابع تنفيذ الاتفاق لا تزال غامضة، كما أن التجارب السابقة أثبتت أن أي غياب للتنسيق الاستخباراتي والرقابة البحرية الفعالة يجعل أي اتفاق عرضة للانهيار. يضاف إلى ذلك أن البحر الأحمر ليس ساحة منعزلة عن صراعات المنطقة؛ فكل تصعيد في اليمن أو في غزة أو حتى في مضيق هرمز ينعكس مباشرة على استقراره، ما يجعل من أي محاولة لتجنيب الممر الدولي تداعيات السياسة الإقليمية مهمة شبه مستحيلة.
ومع ذلك، فإن الاتفاق يفتح الباب أمام ثلاثة مسارات محتملة لمستقبل البحر الأحمر. المسار الأول، وهو الأكثر تفاؤلًا، أن ينجح الإقليم في تحقيق تعاون فعلي بين دوله، عبر ممرات آمنة ودوريات مشتركة وانخفاض ملموس في الهجمات، بما ينعكس على نمو اقتصادي واستعادة ثقة الأسواق العالمية. المسار الثاني هو سيناريو التنفيذ الجزئي، حيث تتحقق بعض الإجراءات ويستمر الخطر بدرجات متفاوتة، فيتحسن الوضع تدريجيًا دون أن يبلغ مرحلة الاستقرار الكامل. أما المسار الثالث فهو التراجع الكامل، حين يبقى الاتفاق في حدود الخطاب السياسي، فيما تتواصل الهجمات ويتدهور الأمن البحري، وتتفاقم الخسائر الاقتصادية لتصبح المنطقة رهينة للفوضى مجددًا.
إن فرص نجاح الاتفاق مرهونة بمدى قدرة الدول الساحلية على إشراك جميع الأطراف الفاعلة، الحكومية وغير الحكومية، في منظومة تنفيذ واقعية وشفافة. فالأمن البحري لا يمكن تحقيقه من خلال البيانات السياسية وحدها، بل عبر تنسيق ميداني، ودعم تقني واستخباراتي، وآليات إنذار مبكر، ومراكز مراقبة مشتركة. كما أن الدعم الخارجي يجب أن يكون مساعدًا لا مهيمنًا، وأن يُدار ضمن إطار تكاملي يحترم السيادة الإقليمية ويعزز القدرات المحلية بدلًا من أن يستبدلها. وعلى الصعيد الاقتصادي، لا بد من وضع خطط لتخفيف تكاليف التأمين، وتحفيز التجارة والاستثمار في الموانئ والمناطق الحرة، وإعادة ربط البحر الأحمر بسلسلة الإمداد العالمية بثقة وفعالية.
يبقى البحر الأحمر اليوم ممر اختبار حقيقي لإرادة المنطقة في تجاوز الانقسام. فهو ليس مجرد خط ملاحي يربط الشرق بالغرب، بل هو مسرح للمصالح الاستراتيجية، وحزام أمني يفصل بين الفوضى والازدهار. إن نجاح اتفاق شرم الشيخ في الانتقال من الوهم إلى الفرصة يعتمد على مدى ترجمة النوايا إلى أفعال، والوعود إلى مؤسسات، والخطابات إلى أمن ملموس. وإذا أحسنت دوله إدارة هذه اللحظة، فسيصبح البحر الأحمر بوابة ازدهار جديدة تربط الخليج بأفريقيا وأوروبا في منظومة تعاون غير مسبوقة. أما إذا استمرّت الخلافات والريبة المتبادلة، فإن الوهم سيبتلع الفرصة، وسيتحوّل البحر الأحمر إلى مرآة لأزمات المنطقة: ممر مليء بالوعود، لكنه مفتوح على احتمالات الانفجار في أي لحظة.


