أبعاد ودلالات تشكُّل بيئة أمنية واستراتيجية جديدة..

تحليل: معاهدة السلام الإماراتية الإسرائيلية وصعود تيار الاستقرار الاقليمي

الشيخ مجمد بن زايد ولي عهد أبوظبي بجانب مقيم اجنبي في جامع الشيخ زايد - ارشيف

أبوظبي

مثَّلت معاهدة السلام المبرمة بين دولة الإمارات وإسرائيل في الثالث عشر من أغسطس الجاري (2020) تحولاً استراتيجياً في مسار العلاقات العربية-الإسرائيلية. والتداعيات الاستراتيجية لهذا الاتفاق سوف تتجاوز مسار العلاقات الثنائية بين البلدين، لتطال الواقع الاستراتيجي في إقليم الشرق الأوسط ككل، بل ليس من المبالغة القول بأنها ستطال الواقع الاستراتيجي القائم في أقاليم أخرى مجاورة مثل إقليم جنوبي آسيا. ونشير فيما يأتي إلى أبرز الدلالات والتداعيات الاستراتيجية المتوقعة لهذه المعاهدة.

 

صعود تيار الاستقرار الإقليمي

 

يمثل هذا الاتفاق انتصاراً لتيار موجود في إقليم الشرق الأوسط منذ فترة طويلة، يذهب إلى أن توسيع وتعميق حجم المعاملات بين أطراف الصراع العربي-الإسرائيلي تمثل المدخل الأهم لتحقيق الاستقرار في الإقليم، وتراجع فرص الصدام بين أطرافه. هذا التيار يستند إلى مقولات العديد من نظريات العلاقات الدولية، وعلى رأسها نظرية الاتصال لكارل دويتش، ومقولات النظريتين الوظيفية والوظيفية الجديدة.

وجوهر هذه النظريات أنه كلما زادت حجم المعاملات بين الوحدات السياسية في إقليم ما زادت فرص بناء الثقة بين النخب السياسية والاقتصادية والاجتماعية، سواء النخب الرسمية أو غير الرسمية، وزادت أيضاً فُرَص تشكيل مصالح مشتركة بين هذه النخب، خاصة في مجال الاقتصاد السياسي، الأمر الذي يؤدي على المدى البعيد إلى تشكيل جماعات مؤيدة للاستقرار في علاقات الأطراف، ومن ثمَّ استقرار الإقليم بشكل عام. كما يستند هذا التيار أيضاً إلى الخبرات التاريخية في بعض الأقاليم، وعلى رأسها إقليم جنوب شرقي آسيا الذي استطاع تحييد الصراعات والنزاعات الحدودية العديدة بين وحداته السياسية لمصلحة التركيز على قضايا التنمية والتعاون الاقتصادي، ما أدى في التحليل الأخير إلى خلق مصالح ضخمة مشتركة بين دول المنطقة، ساهمت في النهاية في تحجيم فرص الصراع العسكري وبناء تجارب تنموية ناجحة. 

وتوقيع معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل سيمثل فرصة مهمة لهذا التيار للدفاع عن مقولاته مرة أخرى، خاصة بالنظر إلى الثقل الاقتصادي لدولة الإمارات في المنطقة.

 

زيادة الارتباط بين الإقليم الخليجي و"مركز" الشرق الأوسط

 

من المتوقع أن تُساهم هذه المعاهدة في تعميق الارتباط بين منطقة الخليج العربي وقلب إقليم الشرق الأوسط، الأمر الذي سيؤدي إلى تعميق التفاعل بين المكونات الفرعية المختلفة للإقليم. وتاريخياً، تمتعت منطقة الخليج العربي بدرجة من الخصوصية والابتعاد نسبياً عن "منطقة المركز"، التي غلب عليها الطابع الصراعي باعتبارها مركز الصراع العربي-الإسرائيلي. وقد ساهمت عوامل عديدة في تكريس هذه الخصوصية، من بينها طبيعة الأنظمة السياسية والاقتصادية في منطقة الخليج، وتباين ترتيب أولوية التهديدات الرئيسية، حيث احتل التهديد الإيراني أولوية كبيرة بالنسبة لمنطقة الخليج العربي مقارنةً بأولوية أنماط أخرى من التهديدات في "منطقة المركز".

وسوف تساهم معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل بلا شك في تعميق حالة الارتباط بين منطقة الخليج العربي و"منطقة المركز"، كنتيجة مباشرة لزيادة حجم التفاعل والمعاملات السياسية والاقتصادية بين طرفي المعاهدة. وتزداد فرص هذا التحول في حالة التحاق دول أخرى في منطقة الخليج بهذا الاتجاه. ومع أن هناك معاملات تاريخية ضخمة بين دولة الإمارات وعدد من دول "المركز" (بعضها كان طرفاً مباشراً في الصراع العربي- الإسرائيلي)، إلا أن التدشين لمرحلة من التفاعل الكثيف بين الإمارات وإسرائيل سيُعمِّق بلا شك من حجم التفاعل والارتباط الخليجي مع منطقة المركز لعوامل تتعلق بخصوصية إسرائيل، باعتبارها طرف رئيسي في الصراع العربي- الإسرائيلي، فضلاً عما تفتحه هذه المعاهدة من آفاق للتعاون السياسي والأمني بين الجانبين، الأمر الذي سيُعطي قضية الأمن الإقليمي بشكل عام، والصراع العربي- الإسرائيلي والقضية الفلسطينية بشكل خاص، ثقلاً أكبر على الأجندة الأمنية لدولة الإمارات ومنطقة الخليج العربي، لتتحول إلى أطراف مهمة في إدارة هذا الصراع.

 

التداعيات على المحاور الاستراتيجية الإقليمية

 

من المتوقع أن يترتب على هذه المعاهدة تداعيات مهمة فيما يتعلق بالمحاور الاستراتيجية بالإقليم. ويمكن الإشارة هنا إلى نتيجتين مهمتين على هذا المستوى. الأولى، أن المعاهدة سوف تساهم في تقوية ما عُرف تاريخيا بـ"محور الاعتدال" في المنطقة، والذي يضم بالإضافة إلى دولة الإمارات كلاً من مصر والمملكة العربية السعودية والأردن، في مواجهة محور آخر راديكالي ضم بالأساس قطر وعدد من الدول غير العربية إلى جانب بعض التنظيمات والفواعل "من دون الدولة". والفرز بين هذين المحورين تم عبر سنوات ممتدة بناء على مواقف أطرافه من عدد من القضايا المهمة في الإقليم، كان من بينها الموقف من الصراع العربي-الإسرائيلي، حيث ظل هناك خلاف بين الجانبين حول آليات إدارة هذا الصراع؛ فبينما مال محور الاعتدال إلى منح اعتبار أكبر لآليات التفاوض والحوار المباشر، مال المحور المقابل إلى الاعتماد على آليات راديكالية بما فيها التنظيمات العنيفة "من دون الدولة".

وبهذا المعنى، يمكن القول إن التحاق دولة الإمارات بالدول ذات العلاقات "الطبيعية" مع إسرائيل سوف يساهم في تقوية "محور الاعتدال" بشكل عام، وموقف دول هذا المحور بشأن طريقة إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي بشكل خاص، في مواجهة المحور الراديكالي، خاصة مع التزايد المحتمل لدور دولة الإمارات في مجال إدارة الصراع العربي-الإسرائيلي بعد توقيع معاهدة السلام مع إسرائيل.

الثانية، من المتوقع أن تؤدي المعاهدة إلى زيادة فرص التعاون والتنسيق الإماراتي-الإسرائيلي فيما يتعلق بالتهديد الإيراني، سواء لجهة خصوصية هذا التهديد بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي بشكل عام، ولدولة الإمارات بشكل خاص، لا سيما في ضوء احتلال إيران لجزر تابعة للسيادة الإماراتية، أو لجهة الأولوية التي أعطتها إسرائيل للتهديد الإيراني خلال السنوات الأخيرة. إذ لعبت إسرائيل دوراً مهماً في تعبئة المجتمع الدولي ضد المشروع النووي الإيراني، وضد الاتفاق النووي الذي وُقِّع معها في عام 2015. والمعاهدة الإمارتية-الإسرائيلية يُمكِّن أن تدشِّن تعاوناً وتنسيقاً إماراتياً - وخليجياً أيضاً - مع إسرائيل في مُحاصرة التهديد الإيراني، بدءاً من تبادل المعلومات حول المشروع النووي الإيراني والسياسات الإيرانية في الإقليم، وانتهاء بالتنسيق المشترك في المحافل الدولية بشأن السياسات الإيرانية الضارة في الإقليم وتأثيرها على الأمن الإقليمي. أضف إلى ذلك، إمكانية الاعتماد على إسرائيل في الحصول على أجهزة المراقبة المتقدمة.

والتنسيق الخليجي-الإسرائيلي فيما يتعلق بالتهديد الإيراني سيُسهم أيضاً في تعميق الاعتماد الأمني المتبادل بين منطقة الخليج ومنطقة "المركز"، بالنظر إلى خصوصية هذا "التهديد" بالنسبة للطرفين، الأمر الذي يزيد من مساحة التوافق الأمني الخليجي-الإسرائيلي.

 

تعميق الاعتماد الأمني المتبادل بين الشرق الأوسط والجنوب الآسيوي

 

من المتوقع أن تُفضي المعاهدة إلى تعميق الاعتماد الأمني المتبادل بين إقليمي الشرق الأوسط وجنوبي آسيا. وقد ساهمت عوامل عدة في تكريس الاعتماد الأمني المتبادل بين منطقة الخليج العربي وجنوبي آسيا، منها العمالة، والواقع الجغرافي، والارتباط بمسطحات مائية مشتركة مهمة. لكن عوامل أخرى تصاعدت خلال الفترة الأخيرة سيكون لها دور أكبر في تكريس هذا الاعتماد المتبادل، من بينها محور "الشمال-الجنوب" International North-South Transport Corridor (INSTC) الذي يتضمَّن بناء شبكة متعددة الأنماط من طرق التجارة الدولية -البحرية والبرية والسكك الحديدية- التي تربط بين أقاليم جنوبي آسيا، وغربي آسيا وأسيا الوسطى، والقوقاز، وروسيا وصولاً إلى شمال أوروبا.

ويقف وراء هذا المشروع كلٌّ من الهند وإيران وروسيا، حيث تم توقيع اتفاق بهذا الشأن في سبتمبر 2000 بين الدول الثلاث، انضمت إليه لاحقاً عدد من دول آسيا الوسطى والقوقاز والخليج العربي والشرق الأوسط، شملت كازاخستان وبيلاروس وطاجكستان وأرمينيا وأوكرانيا وقيرغيزستان وأذربيجان وعمان وسوريا وتركيا وبلغاريا. من ذلك أيضاً "معاهدة عشق آباد" Ashgabat agreement، التي يهدف أطرافها إلى إنشاء شبكة من الطرق عابرة الحدود، بهدف تسهيل التجارة بين إقليمي آسيا الوسطى والخليج العربي اعتماداً على الموانئ الإيرانية والعمانية. وتم توقيع المعاهدة في أبريل 2011 بين كلٍّ من أوزبكستان وتركمنستان وإيران وعمان وقطر، لكن الأخيرة انسحبت من المعاهدة في عام 2013. وقد أصبحت الاتفاقية نافذة في أبريل 2016. وانضمت إليها لاحقاً كازاخستان وباكستان في عام 2016، ثم الهند في فبراير 2018.

وتوقيع معاهدة السلام بين الإمارات وإسرائيل سيمثل متغيراً إضافياً إلى جانب المتغيرات السابقة لتعميق التأثيرات الأمنية المتبادلة بين إقليمي جنوبي آسيا والخليج العربي، من زاوية أخرى وهي العلاقات الاستراتيجية بين الهند وإسرائيل. فالعلاقات الهندية-الإسرائيلية سوف تمثل عنصر ربط مهم بين الإقليمين، خاصةً بالنظر إلى المستوى المتقدم الذي وصلت إليه هذه العلاقات على المستويات الاقتصادية والعسكرية والأمنية، الأمر الذي يفتح المجال أمام زيادة فرص التعاون والتنسيق الأمني بين الدول الثلاث: الإمارات والهند وإسرائيل، حول التداعيات الأمنية للتحولات الجارية في جنوبي آسيا والخليج العربي والشرق الأوسط على الأمن الإقليمي.

وختاماً، لا يمكن القطع بأن التداعيات السابقة لمعاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية تسير جميعها في اتجاه إيجابي بشكل مطلق، فالأمر سيعتمد في التحليل الأخير على قدرة دولة الإمارات، ودول محور الاعتدال العربي بشكل عام، على توظيف هذه التحولات لخدمة المصالح العربية ومصالح هذا المحور في مواجهة المحور الراديكالي الذي لا يزال يمتلك القدرة على توظيف مقولات وفرضيات مضادة.

-------------------------------------------

المصدر| مركز الإمارات للدراسات