تقارير وتحليلات
من (الأخونة) إلى (الحوثنة)..
تجريف الوظيفة العامة في اليمن (1-2)
على مدى ثلاثة أعوام تشهد الوظيفة العامة في اليمن، عملية تجريف وتدمير ممنهج وغير مسبوق يصفه الكثير من الأكاديميين ومسئولي الإدارة بـ(كارثة إدارية كبرى) لا يمكن إصلاحها.
وتتضح معالم الكارثة الإدارية ليس فقط في عملية التوظيف المحكومة بالفساد السياسي والمالي فحسب، بل وبعملية التدمير لكل الإنجازات والإصلاحات التي كانت تنفذها الدولة في اليمن على مدى أكثر من عقد ونصف، خصوصاً في مجال الوظيفة العامة ومأسستها وقوننتها وربطها بمبادئ تكافؤ الفرص والحكم الرشيد.
إصلاحات الخدمة المدنية
على الرغم أن حكومة الجمهورية اليمنية بدأت تنفيذ برنامج تحديث الخدمة المدنية منتصف تسعينيات القرن الماضي في إطار التعاون مع صندوق النقد والبنك الدوليين، إلا أن عملية التنفيذ الجدي والفعلي لمشروع مكافحة الفساد المالي والإداري بدأت مع مطلع الألفية الجديدة، حيث شرعت الحكومة اليمنية بتنفيذ برنامج إصلاح وتطوير إداري شامل عُرف باستراتيجية تطوير الخدمة المدنية.
وبدأت عملية تحديث الخدمة المدنية بحزمة إصلاحات اقتصادية بلغ عددها (13) إصلاحاً ضمن ما عُرف بالإطار المشترك للمسؤوليات المتبادلة بين اليمن والمانحين، وكان أبرزها إنهاء الازدواج الوظيفي، والإحالة إلى التقاعد، واستراتيجية الأجور والمرتبات، وإحالة العمالة الفائضة إلى صندوق الخدمة المدنية.
وعلى الرغم من أن عملية الإصلاحات التي كانت تجري في الخدمة المدنية جوبهت بعملية معارضة وعراقيل كثيرة من قبل بعض قوى النفوذ في السلطة، إلا أن الإصرار على المضي في تنفيذ عملية الإصلاحات أفضى إلى تأسيس بنية تشريعية وفنية ساهمت في تنفيذ تلك الإصلاحات من خلال إنشاء صندوق الخدمة المدنية والذي يستوعب العمالة الفائضة، وعملية الإحلال للموظفين اليمنيين بدلا عن الأجانب، وإصدار قانون الأجور والمرتبات ولائحته التنفيذية، وتنفيذ برنامج البصمة والصورة الهادف إلى القضاء على عملية الازدواج الوظيفي، وعملية الإحالة إلى التقاعد، وهي إصلاحات كانت قد بدأت تؤتي ثمارها في الحد من عملية الفساد الإداري والمالي وأسهمت في توفير وظائف جديدة، وإيقاف عملية الهدر المالي على الوظائف الوهمية. إلا أن التأثيرات السلبية للأزمة السياسية في اليمن عام 2011م أدت إلى توقف استكمال عملية الإصلاحات في مجال الخدمة المدنية.
الأخونة... فساد بلاحشمة
ظلت أحزاب اللقاء المشترك المعارضة في اليمن والتي كان يتزعمها حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون في اليمن)، على مدى عقد كامل، تشن حملات سياسية وإعلامية تتهم حزب المؤتمر الحاكم وقيادته ممثلة بالرئيس السابق علي عبدالله صالح، بممارسة فساد مالي وإداري وتسييس الوظيفة العامة، وتعيين الأقارب على غرار اتهامات الجيش والأمن العائلي، وهو الأمر الذي شكل قناعة لدى الناس بأن وصول هذه الأحزاب إلى السلطة سيكون من شأنها القيام بعملية إصلاحات إدارية تنهي الفساد وتقضي على مظاهره كما كانوا يزعمون في حملاتهم السياسية والإعلامية ضد السلطة.
ومثلت حكومة الوفاق الوطني التي تشكلت نتيجة التسوية السياسية المتمثلة في المبادرة الخليجية وآليتها التنفيذية المزمنة محطة الاختبار العملية لمدى مصداقية أحزاب المشترك في تنفيذ شعاراتها ووعودها الخاصة بالقضاء على الفساد وتحسين مستوى معيشة الناس، ورفع الأجور والمرتبات، وتحييد الوظيفة العامة وغيرها من المزاعم التي ظلت تتضمنها خطابات ومواقف تلك الأحزاب.
وخلافا لكل الشعارات والدعاوى السياسية شهدت الفترة الممتدة من (3 يناير 2012م- 21 سبتمبر 2014م) والتي أدارت فيها حكومة الوفاق الوطني التي كان يسيطر عليها حزب الإصلاح (الإخوان المسلمون في اليمن) ليس فقط إيقاف عملية الإصلاحات الإدارية أو تجريفها، بل امتد الأمر إلى البدء بعملية تجريف ممنهجة للوظيفة العامة من خلال القيام بعملية توظيف وإحلال للكوادر الحزبية خصوصا المنتمية لحزب الإصلاح في مختلف مرافق ومؤسسات الدولة وهو ما عرف حينها بـ(أخونة الوظيفة العامة).
وأدت عملية الأخونة للوظيفة التي امتدت إلى جانب السلك المدني لتشمل المؤسستين العسكرية والأمنية ليس إلى إنهاء النجاحات التي كانت برامج تحديث وإصلاح الخدمة المدنية قد حققتها فحسب، بل وإلى اتساع عملية الفساد الإداري والمالي بشكل غير مسبوق من خلال إضافة موظفين جدد إلى مرافق الدولة بما يمثله ذلك من تضخم للقطاع الإداري، وإضافة أعباء وتكاليف جديدة على موازنة الدولة، فضلا عن إرباك وإيقاف تنفيذ برنامج البصمة والصورة الوظيفية، وإنهاء الازدواج الوظيفي، وفوق ذلك كله التأثير سلباً على عملية الإنتاج، وتقديم الخدمات للمواطنين في مختلف مرافق الدولة، ناهيك عن إثارة الخلافات السياسية مع بقية القوى سواء التي كانت مشاركة في حكومة الوفاق أو التي كانت خارجها، ويتذكر الجميع المقولة الشهيرة للأمين العام للحزب الاشتراكي اليمني حينها الدكتور ياسين سعيد نعمان الذي وصف عملية الفساد في تلك الحكومة بالقول: (الفساد القديم كان يمارس فساده بأدب وحشمة أما الجديد فيمارسه بقلة أدب وبلا حشمة).
الخلافات السياسية التي نجمت عن استئثار الإخوان بالنصيب الأكبر من كعكة الوظيفة العامة خلال حكومة الوفاق الوطني وكانت أحد أسباب فشل الحكومة وعجزها عن تنفيذ مهامها وتحولها إلى أداة للحصول على مكاسب حزبية وشخصية ضيقة، وأسهمت بشكل مباشر وغير مباشر في تهيئة الأرضية والمبررات أمام مليشيات الحوثي لتنفيذ مشروعها في التمدد والسيطرة على مؤسسات الدولة ونهبها والانقلاب والاستيلاء على السلطة بالقوة.
أخطاء حكومة الوفاق الوطني، فيما يتعلق بقضية تجريف الوظيفة العامة، لم تتوقف، فمع انطلاق حرب التحالف بقيادة السعودية ضد مليشيات الحوثي وبدء الحكومة ممارسة سلطاتها من العاصمة السعودية الرياض، سارعت القوى السياسية التي فرت قياداتها إلى الخارج وعلى رأسها حزب الإصلاح والاشتراكيون والناصريون إلى مواصلة نفس أساليبها في الصراع على الحصول على أكبر نصيب في عملية التعيينات في مختلف وظائف ومؤسسات الدولة المدنية والعسكرية والأمنية.
وعلى الرغم من أن قيادات الأحزاب، كالاشتراكي والناصري، استطاعت أن تحصل على بعض المناصب في إطار حكومة هادي التي تعمل خارج البلاد، إلا أن حزب الإصلاح لا يزال يحظى بنصيب الأسد من المناصب وبالذات في السلك العسكري والأمني، وهو الأمر الذي يثير الكثير من الانتقادات وحملات الاتهامات المتبادلة من إعلاميي وناشطي بقية الأحزاب.
ويعد الصراع العسكري والسياسي والإعلامي الذي تشهده محافظة تعز بين أتباع الإصلاح من جهة والناصريين والاشتراكيين والسلفيين من جهة أخرى، أحد أبرز الدلائل التي تعكس مدى الصراع الذي تمارسه هذه القوى بغية الاستئثار بالوظيفة العامة، بل وعاملاً من عوامل الفشل في مواجهة مليشيات الحوثي وتحويل المعركة ضدها إلى مشروع استثماري يدر الأموال على هذه الأطراف.