الأدب والفن

تسليط الضوء على قسوة الكفالة..

بين الواقع والخيال: حياة الماعز يكشف انتهاكات حقوق العمال في السعودية

سرد سينمائي واقعي يصور لقطات صادمة عن انتهاكات بحق العمالة الوافدة.

لا يزال فيلم "حياة الماعز" يثير جدلا واسعا نظرا إلى الصورة القاسية التي نقلها عن العمال الوافدين والانتهاكات التي يمكن أن ترتكب بحقهم، لكن بتفكيك الفيلم وعناصره وتتبعها من الممكن القول إنه يقدم طرحا جريئا يناقش حقوق العمال ليس فقط في المملكة العربية السعودية وإنما في مختلف المجتمعات.

 يستعرض فيلم “حياة الماعز” للمخرج الهندي بليسي إيب توماس قصة حقيقية لشاب هندي يُدعى نجيب، ينتقل إلى السعودية بحثًا عن فرصة عمل، فيقع تحت رحمة شخص سعودي زعم أنه كفيله وأخذه إلى الصحراء ليرعى الأغنام، وهناك يعاني نجيب حياة قاسية ومليئة بالقهر في صحراء المملكة على مدى ثلاث سنوات، دون أن يتمكن من الهروب أو تغيير وضعه.

يستند الفيلم إلى رواية “بنيامين”، ويعكس الصعوبات التي واجهها العمال الوافدون تحت نظام الكفالة الذي عانى منه الكثيرون منذ سبعينات القرن الماضي، والعمل من سيناريو بليسي إيب توماس، وبطولة كل من بريثفيراج سوكوماران، وجيمي جان لويس، وكر جوكول، وطالب البلوشي، وأمالا بول.

يعالج الفيلم موضوع استغلال العمالة الوافدة في السعودية، ويركز على القضايا المتعلقة بالعبودية الحديثة والمعاملة اللاإنسانية التي يتعرض لها العمال الأجانب في بعض الحالات، من خلال تصوير قصة الشابين الهنديين نجيب وحكيم، إذ تبرز متتاليات المشاهد كيف يمكن للأفراد أن يقعوا ضحية للاستغلال بسبب حاجتهم إلى العمل ورغبتهم في تحسين ظروفهم المعيشية، كما يطرح تساؤلات حول أخلاقيات العمل والمعاملة الإنسانية في ظل نظام الكفالة الذي قد يتحول في بعض الأحيان إلى أداة استغلال.

وتتجلى في الشخصيات الرئيسية ملامح الصراع الداخلي والخارجي، حيث يمثل نجيب الشخصية التي تتعرض لأقسى أنواع الاستغلال والاضطهاد، ومع ذلك يحتفظ ببصيص من الأمل والإصرار على النجاة. أما حكيم فيجسد حالة اليأس والاستسلام بعد معاناته الطويلة، وهذا يعكس الفارق بين الصمود والانهيار تحت وطأة الظروف، ومن جهة أخرى يُقدم الرجل المسن كرمز للقسوة واللاإنسانية، متجردا من أي قيم أخلاقية أو مشاعر رحمة، ما يضيف إلى الفيلم طابعا مأساويا.

وتمثل الصحراء في الفيلم رمزا للتيه والعزلة والانقطاع عن العالم، والقسوة والجفاف، سواء على مستوى الطبيعة أو البشر، كذلك مشهد جثة الراعي الهندي المهملة التي تأكلها النسور، إذ ترمز إلى المصير المأساوي الذي ينتظر كل من يقع في شرك الاستغلال، حيث لا يُترك سوى الموت البطيء والنسيان، أما شخصية إبراهيم الأفريقي فهي ترمز إلى الأمل والخلاص، وإن كان أمله لا يتحقق إلا لجزء بسيط من الشخصيات، وهذا يعكس حقيقة الفرص شبه المنعدمة للنجاة من جحيم الصحراء.

ويعتمد تكوين اللقطات على أسلوب سردي واقعي ومباشر، حيث يتم تصوير المعاناة بطريقة حادة ودون تجميل، إذ أن استخدام الصحراء كخلفية أساسية يعزز الشعور بالعزلة والوحدة والضياع، كما أن المشاهد المأساوية التي تظهر تجويع وتعنيف نجيب تبرز قوة في نقل الإحساس بالعجز والاضطهاد الذي يعيشه.

ويعكس الإيقاع الزمني البطيء للأحداث الثقل والجمود الذي يطغى على حياة الشخصيات، فيما تسهم النهاية المفتوحة في ترك المشاهد أمام تساؤلات حول مصير نجيب وما إذا كان حقًا قد نجا أم أن هربه مجرد بداية لمعاناة جديدة.

ويطرح السيناريو قضية هامة تخص حقوق الإنسان والمعاملة العادلة للعمال في المجتمعات المختلفة، إذ تثير هذه الأحداث نقاشات حول نظام الكفالة والعبودية الحديثة، ما يمكن أن يسهم في تعزيز الوعي بهذه القضايا الاجتماعية والضغط من أجل إصلاحات قانونية تحمي حقوق العمال، كما يساهم أيضًا في تسليط الضوء على التحديات الثقافية والاجتماعية التي يواجهها العمال الأجانب في بيئات غير مألوفة، ويدعو إلى التفكير في ضرورة بناء جسور التفاهم والتعاون بين الثقافات المختلفة.

وبفضل قوة السيناريو وجودة السرد الواقعي يتضح أن فيلم “حياة الماعز” يمتلك مقومات كبيرة للحصول على جائزة أفضل سيناريو مقتبس في المهرجانات السينمائية العالمية، حيث يعكس بعمق معاناة العمال الوافدين وصراعاتهم تحت نظام الكفالة في السعودية، ما يجعله موضوعًا ذا صدى واسع في الأوساط السينمائية والنقدية، لقدرته على تصوير القسوة والواقعية في بيئة الصحراء القاحلة، إلى جانب تركيزه على القضايا الإنسانية الحساسة، فذلك يعزز من فرص الفيلم في التنافس بقوة على جوائز السيناريو في المهرجانات، لكن تم حظره ومنع في دول الخليج مثل السعودية، حيث تناول موضوعات قريبة من الواقع المحلي بأسلوب قاس.

ويعكس الفيلم “حياة الماعز” ذكاء إخراجيا متميزا يظهر من خلال استخدام المخرج بليسي إيب توماس للكاميرا الثابتة واللقطات القريبة جدًا، ويعزز تأثير المَشاهد على المشاهدين، حيث يضفي استخدام الكاميرا الثابتة إحساسًا بالثقل والجمود، وهذا يتماشى مع الإيقاع البطيء لأحداث الفيلم، ويعكس الحالة النفسية المتدهورة للشخصيات، خاصة في لحظات المعاناة والعزلة في صحراء السعودية.

ويستخدم المخرج اللقطات القريبة جدا لإبراز التفاصيل الدقيقة والمعاناة الشخصية للشخصيات، مثل تعابير الوجه المتألمة لنجيب، والتي تكشف عن الألم الداخلي الذي لا يمكن التعبير عنه بالكلمات. أما زوايا التصوير المتنوعة فتساهم في إظهار البيئة القاسية والمحيطة بالشخصيات بشكل فريد، حيث يتم تصوير مشاهد الصحراء من زوايا منخفضة وعالية تعكس ضخامة المكان مقابل ضآلة الشخصيات وشعورهم بالتيه والضياع، وهذه الأساليب التصويرية تساهم بشكل كبير في حبك واقعية الفيلم وتأكيد قوة السرد البصري، وهو ما قد يجعل “حياة الماعز” مرشحًا قويًا لجائزة أفضل سيناريو مقتبس في المهرجانات السينمائية العالمية.

ومن بين المشاهد المؤثرة في فيلم “حياة الماعز” يأتي مشهد وداع نجيب لقطيع الغنم وهو ينوي الهروب من قهر الصحراء، حيث يبرز هذا المشهد كإحدى أكثر اللحظات قوة وعاطفة في الفيلم، ويستحق بلا شك الترشح لجائزة الأوسكار؛ ففي هذا المشهد تُستخدم اللقطات القريبة جدًا لإبراز تعبيرات وجه نجيب المتضاربة بين الحزن والخوف والأمل، إذ تلتقط الكاميرا تلك اللحظة التي يودع فيها نجيب القطيع الذي كان رفيقه الوحيد في العزلة، وهذا يجعل المشاهد يشعر بعمق الألم والارتباط الذي نشأ بين الإنسان والحيوان في ظل الظروف القاسية.

ويلتقط الإخراج المتميز لهذا المشهد الصراع الداخلي لنجيب ورغبته في الهروب من الظلم الذي يعيشه، ليصبح هذا المشهد علامة فارقة في الفيلم ومرشحًا قويًا للأوسكار، بفضل قدرته على نقل مشاعر معقدة بلغة بصرية مؤثرة للغاية.

وتضيف الموسيقى التصويرية للرائع الهندي أي. آر. رحمن بُعدًا عاطفيًا عميقًا إلى الأحداث، فالمغني الهندي معروف بقدرته على مزج التقاليد الموسيقية المختلفة بأسلوب فريد، إذ استخدم في هذا الفيلم مقطوعات موسيقية تُبرز مشاعر الألم واليأس التي تعيشها الشخصيات، والألحان الحزينة والمثيرة للشجن تتناغم مع متتاليات المشاهد المأساوية، وهذا يجعل المشاهد يشعر بثقل الظلم والمعاناة التي يعيشها نجيب وحكيم، إذ أن الموسيقى هنا ليست مجرد خلفية، بل هي عنصر أساسي يساهم في إيصال الرسالة الدرامية للفيلم، وهذا يساهم في إغراق المشاهد بالأجواء النفسية المعقدة التي تعيشها الشخصيات.

ويُعتبر فيلم “حياة الماعز” عملا جريئًا، وهذه الجرأة في الطرح دفعت بعض الجهات إلى منع عرض الفيلم، إذ اعتُبر أنه يسيء إلى صورة المملكة العربية السعودية ويضرب في عمق مصداقية دولة إسلامية تسعى إلى التقدم والتحديث، حيث أن الفيلم لا يتجنب مواجهة الواقع الصعب الذي يعيشه بعض العمال الأجانب، ويطرح تساؤلات حول القيم الإنسانية والأخلاقية في مجتمع يتسم بالتطور والتحضر، وهذه الانتقادات تجعل من الفيلم ليس فقط عملًا فنيًا ذا جودة، بل أيضًا موضوعًا للنقاش والجدل حول حرية التعبير وحدود النقد في السينما.

مشاريع تنموية إماراتية جديدة في اليمن: دعم للتعليم والطاقة بالساحل الغربي


محكمة الجنايات الدولية تُصدر مذكرات توقيف بحق نتنياهو والغرب ينقسم


إيران على صفيح ساخن: الغضب الشعبي يتصاعد بسبب الأزمات الاقتصادية


محمد محدثين: النظام الإيراني أمام مفترق طرق حاسم وأزمات متفاقمة