أول وزير للدفاع بعد الوحدة اليمنية
هيثم قاسم شغاتي يدخل المعركة بصمت
كان كل شيء يبدو مثاليا على وقع الفرحة التي عمت أرجاء اليمن صبيحة الثاني والعشرين من مايو 1990، أصبح اليمن واحدا بمساحة شاسعة تفوق النصف مليون كيلومتر مربع، وبجيش كبير تكوّن قوامه من دمج جيشين على رأسهما وزير دفاع مثير للإعجاب والحماسة بطلّته المهيبة وهيئته العسكرية الحاسمة.
لم يخف اليمنيون إعجابهم بالعميد هيثم شغاتي أول وزير دفاع في اليمن الموحد والعسكري المخضرم الذي يسبقه تاريخه حيثما ذهب كقائد استثنائي في جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية، استطاع أن يحسم الحرب عام 1986 لصالح فصيل ضد آخر بقوات المدرعات التي كان يقودها آنذاك.
ينحدر طاهر من مديرية ردفان بمحافظة لحج (شمال عدن) والتي اندلعت منها شرارة الثورة ضد الاستعمار البريطاني في العام 1963. وتشتهر المنطقة التي ينتمي إليها بكونها مركز ثقل سياسي وعسكري مهمّ في جنوب اليمن نظرا لكثرة القادة العسكريين الذين ينتمون إليها.
ولد في أجواء اجتماعية تحفّز على الالتحاق بقطاع الجيش. وتمكن من شقّ طريقه في هذا المجال والحصول على التأهيل الذي أوصله لتبوّؤ منصب عسكري كقائد لسلاح الدبابات وآخر حزبي، توجّب انضمامه لعضوية اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني في انتخابات المؤتمر العام الثالث في أكتوبر1985.
تدخل حاسم
كانت حمّى التنافس على السلطة قد أخذت بعدا جهويا ومناطقيا في جنوب اليمن بين فصيلين سياسيين أحدهما يقوده الرئيس علي ناصر محمد والآخر يتزعمه وزير الدفاع علي أحمد ناصر عنتر وبلغ الصراع ذروته مطلع العام 1986، الأمر الذي استدعى تدخّل وسطاء يساريين عرب من بينهم جورج حاوي الأمين العام السابق للحزب الشيوعي اللبناني الذي زار عدن للوساطة قبيل أيام من اندلاع الحرب.
ذكر حاوي في شهادة لاحقة له أن علي عنتر قال له في اللقاء الأخير بينهما “عقدنا اجتماعاً للمكتب السياسي للحزب في 9 يناير واعترض علي ناصر محمد على كل المشاريع التي قدمناها فلم نتوصل إلى نتيجة. واليوم سنعقد اجتماعاً آخر فإذا ما رفض علي ناصر المشاريع المقدمة، فإنني سأقتله شخصياً بمسدّسي”، وهو ما يعتقد أن حاوي نقله حرفيا لصديقه علي ناصر وكان أحد أسباب تفجر الحرب.
صباح الثالث عشر من يناير 1986 انفجرت المواجهات العسكرية في عدن إثر إقدام الرئيس على تصفيه معارضيه في اجتماع للمكتب السياسي للحزب الاشتراكي، نتج عن ذلك مقتل وزير الدفاع علي عنتر وعدد من أبرز المتحدّرين من محافظة الضالع التي كانت “ردفان” تتبع لها إداريا وجيوسياسيا.
انقسم المشهد الجنوبي إلى قسمين وكانت الكفة في بداية الأمر تميل لصالح الرئيس علي ناصر الذي تخلص من أبرز خصومه، غير أن قائد إحدى أهم الوحدات العسكرية تسبب في تغيير النتيجة لصالح الطرف الآخر خلال فترة قياسية، حيث اصطف العقيد هيثم قاسم شغاتي قائد سلاح الدبابات في الجيش مع فريق علي سالم البيض، وتمكّن من حسم المعركة خلال أيام قليلة، وغادر الرئيس علي ناصر وضباطه إلى شمال اليمن، وذاع صيت العقيد طاهر الذي كان بطل الحرب، واحتفى به الطرف المنتصر وتم تعيينه رئيسا لأركان الجيش في جنوب اليمن.
عواصف الوحدة وعواطفها
إلى جانب مهامه العسكرية كرئيس لأركان الجيش تم انتخاب طاهر عضوا في اللجنة المركزية والمكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني أرفع سلطة في البلاد في ذلك الحين. فشارك في جولات الحوار السياسي بين شمال اليمن وجنوبه من أجل تحقيق الوحدة بين الشطرين.
حضر ما سمّي حينها بلقاء قمة تعز الذي عقد في أبريل 1988 بين العقيد علي عبدالله صالح رئيس الجمهورية العربية اليمنية القائد الأعلى للقوات المسلحة الأمين العام للمؤتمر الشعبي العام، وعلي سالم البيض أمين عام اللجنة المركزية للحزب الاشتراكي اليمني، وهو اللقاء الحاسم الذي سبق توقيع اتفاقية الوحدة بفترة وجيزة.
نجحت الحوارات التي غلبت عليها عواطف الجنوبيين وطموحات الرئيس صالح فأعلن عن قيام الوحدة بين شمال اليمن وجنوبه في 22 مايو 1990 وشكّلت أول حكومة في عهد الوحدة برئاسة المهندس حيدر أبوبكر العطاس وعيّن العميد هيثم قاسم شغاتي وزيرا للدفاع، وخلال الفترة التي تلت الوحدة كان قاسم الشخصية الأكثر حضورا على المستوى الشعبي، وبدا أن الرجل مهيأ على كل المستويات للعب دور أكبر في المرحلة القادمة، غير أن تداعيات الصراع السياسي بين شركاء الوحدة لم تمهله للعب الدور الذي يتناسب مع مكانته الرفيعة في المخيّلة الشعبية.
وبدلا من أن يمارس مهامه كوزير لدفاع الوحدة سرعان ما تحول طاهر إلى رجل لإطفاء حرائق الاحتكاكات العسكرية التي نشبت بين وحدات عسكرية شمالية وأخرى جنوبية في مختلف مناطق اليمن. وعلى الرغم من قربه سياسيا من الطرف الذي يمثله نائب الرئيس علي سالم البيض إلا أنه قام في تلك الفترة بما يمكن وصفه بالدور الأكثر إيجابية محاولا وقف التدهور السياسي والعسكري بين صالح والبيض.
في نوفمبر 1993 توجه وزير الدفاع هيثم شغاتي إلى المنطقة الحدودية السابقة بين شمال اليمن وجنوبه وتمكن من تهدئة الأوضاع المتوترة التي أعقبت تحرك وحدات عسكرية من الجنوب نحو الشمال قادمة من معسكر صلاح الدين وقاعدة العند الجوية لتعزيز الوحدات الجنوبية على الحدود الشطرية السابقة.
وقد تكرر هذا النموذج في الكثير من المواقع مع تصاعد المواجهات العسكرية بين معسكرات الجيش، كما شكل العديد من اللجان العسكرية لوقف الانهيار المتعاظم على الأرض، غير أن اتساع رقعة الصراع السياسي وتفشّي حمّى الاغتيالات التي طالت العشرات من كوادر الحزب الاشتراكي اليمني في العاصمة صنعاء ومن بينهم ماجد مرشد مستشار وزير الدفاع نفسه فاقما من حدة التوتر بين الوحدات العسكرية الجنوبية والشمالية، ولم تتمكن حكومة الوحدة في تلك الأجواء من إعادة نشر الوحدات والألوية العسكرية، بالرغم من سعي بعض أعضاء الحكومة لعقد اجتماع لاتخاذ قرار لوقف النزيف العسكري غير أن الاجتماع عقد في الوقت الضائع وقاطعه معظم الوزراء الجنوبيين الذين غادروا إلى عدن ومن بينهم هيثم شغاتي الذي وصل إلى مرحلة ملّ فيها من لعب دور الإطفائي وكان لزاما عليه أن يصطف مع حزبه لخوض مواجهة وشيكة.
في مايو 1994 اكتملت دائرة الاصطفافات وانفجرت الحرب بشكل رسمي بين القوات الجنوبية التابعة للحزب الاشتراكي اليمني بقيادة نائب الرئيس علي سالم البيض الذي انتقل هو وجميع طاقمه إلى عدن والقوات الشمالية التي يقودها الرئيس علي عبدالله صالح، وأخذت الحرب منحى آخر بعد إعلان البيض في مساء 20 مايو 1994 فكّ الارتباط مع شمال اليمن واستعادة دولة الجنوب وأعقب ذلك في 2 يونيو 1994 بتشكيل أول حكومة في “جمهورية اليمن الديمقراطية” التي أعلن عنها، وشغل فيها هيثم قاسم شغاتي مجددا منصب وزير الدفاع.
كان وزير الدفاع طاهر الذي أقاله صالح من منصبه وعيّن عبدربه منصور هادي بدلا عنه يكافح في سبيل إيقاف زحف القوات الشمالية نحو عدن، غير أنه أدرك متأخرا أن الفترة التي قضاها في محاولة إيقاف التدهور انطلاقا من مسؤولياته كوزير دفاع، كان الطرف الآخر يعمل فيها على تعزيز قواته.
وقال في مقابلة صحافية أجريت معه بصفته وزير دفاع اليمن الجنوبي في يونيو 1994 وقد غلب على حديثه اليأس والشعور بمرارة الغدر في الوقت الذي كانت وسائل إعلام الطرف الآخر تتحدث عن مقتله “لقد اتضح جلياً لنا أن الرئيس الشمالي يريد التصفية الجسدية ليس فقط لمعارضيه السياسيين بل لكل ضابط وجندي من أبناء المحافظات الجنوبية، وهو ما تأكد عملياً من خلال الحرب الشاملة التي شنها من مختلف الجهات وجعل من القرى والمدن والمنشآت المدنية أهدافاً للقصف المدفعي والصاروخي والجوي الهمجي والعشوائي”.
وعندما سئل عن سبب اقتصار دور قواته على الدفاع كون المعارك تدور في جنوب اليمن، أجاب ومرارة الخديعة تملأ فمه “من الطبيعي جداً أن تدور المعارك في الأراضي الجنوبية على حدّ وصفكم، ذلك أن قوات الرئيس علي عبدالله صالح التي استعدت منذ وقت بعيد لهذه الحرب الشاملة ضد أبناء المحافظات الجنوبية حشدت لها وسخّرت كل القوى والوسائل، في الوقت الذي تعاملنا فيه نحن مع الوحدة بروح عاطفية بريئة وكأنها مسألة لا رجعة فيها، لذلك كانت أعمالنا القتالية دفاعية”.
كما تحدث عن الاختراقات التي حدثت في الوحدات التابعة له قائلا “من الطبيعي تماماً أن يجد علي عبدالله صالح أنصاراً له في صفوف وحداتنا، لأننا كنا نعتبر أنفسنا دولة واحدة وجيشاً واحداً، لكن الرئيس الشمالي وأنصاره كانوا يتصرفون بأسلوب تآمري انتهازي”.
في تلك اللحظات كان طاهر يؤمن بشدة في أعماقه بأن الحرب انتهت، وهو ما حدث بالفعل بعد ذلك بشهر تقريبا حيث اجتاحت قوات صالح عدن في 7 يوليو 1994.
تداعيات الهزيمة
غادرت قيادات الحزب الاشتراكي البارزة إلى سلطنة عمان وجيبوتي وتفرّقت بعد ذلك في أصقاع الأرض. وكان من بين من غادر وانقطعت أخباره بشكل تام العميد هيثم قاسم شغاتي الذي آثر الصمت لفترة طويلة جدا تتناسب مع طبيعته التي لا تحبّ الأضواء.
في مارس1998 أصدرت المحكمة الابتدائية بصنعاء حكماً غيابياً بحق ما عرف بقائمة 16 -1 التي تضم قادة الحزب الاشتراكي اليمني الذين أدانتهم المحكمة بتهمة الخيانة العظمى ومحاولة تنفيذ مؤامرة الانفصال وإشعال الحرب صيف العام 1994.
وقد قضت المحكمة بإعدام خمسة من بينهم أول وزير دفاع في دولة الوحدة وجاء في حيثيات الحكم أن المتهمين الخمسة ومن بينهم العميد طاهر وردت أسماؤهم في محضر اجتماع المكتب السياسي للحزب الاشتراكي اليمني في 16 فبراير 1994 و”أصدروا قرارات بفصل ميزانية المحافظات الجنوبية والشرقية والقوات المسلحة والأمن فيها، وتعيين وكيل لوزارة المال في عدن. وثبوت إصدارهم التوجيهات والأوامر وإعدادهم الخطط وجرد الأسلحة والذخائر وتكديسها وتوزيعها لفروع منظمات الحزب ولبعض الشخصيات بكميّات كبيرة وإثارة الشغب والتحريض على التخريب وإقلاق الأمن والتلغيم والقتل وتدبير الاغتيالات وجلب أسلحة وذخائر متنوعة وأجهزة اتصالات واستجداء الدعم الخارجي وحصولهم على أموال نقدية بلغت مئات الملايين من الدولارات وتسخيرها لتنفيذ المخطط الانفصالي، وإن ما ورد في الأدلة يفضح جملة وتفصيلاً أن الجريمة هي خيانة الوطن والمساس باستقلال الجمهورية اليمنية ووحدة وسلامة أراضيها وإشعال الحرب”.
غير أن الرئيس صالح أصدر قراراً بالعفو عن المتهمين في 21 مايو 2003 في ذكرى الاحتفال بأحد أعياد الوحدة.
الرمح الذهبي
استقر المطاف بطاهر ضيفا على دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد فضّل في تلك المرحلة الابتعاد عن الأضواء والعيش بسلام بعيدا عن تداعيات الحرب والانفصال. وحتى ما تلا ذلك من حراك جنوبي اجتذب الكثير من زملائه في قيادة الحزب الاشتراكي، ولم يتناول خلاله طاهر في تلك الفترة إلا من خلال بعض الإشاعات عن انضمامه لجماعة التبليغ الإسلامية.
غير أن ارتفاع حدة الصراع بين الرئيس صالح والحوثيين من جهة والرئيس عبدربه منصور هادي الذي عيّنه صالح في 1994 وزيرا للدفاع بدلا عنه أعادت طاهر للواجهة الإعلامية مجددا عامي 2014 و2015 وقيل حينها إن الرئيس هادي دعاه مرارا للعودة للعب دور سياسي وعسكري. غير أن كل محاولات إعادته للمشهد الذي كان يشبه مشهد 1994 باءت بالفشل، وقد ظهر لأول مرة في تلك الفترة من خلال صور وهو برفقة علي سالم البيض الذي أراد استقطابه لحراكه الانفصالي، وأيضا من خلال صور أخرى وهو برفقة نائب الرئيس ورئيس الوزراء السابق خالد بحاح.
بعد فترة غياب طويلة ظهر طاهر لأول مرة في مدينة المكلا في أعقاب تحريرها من قبضة تنظيم القاعدة في عملية خاطفة للتحالف العربي، ودار حديث عن قيامه بدور استشاري لصالح التحالف العربي. كما أشرف على عمليات تجنيد واسعة في قاعدة العند الجوية التي يعرفها جيدا، واستمر ظهوره الإعلامي في تلك الفترة من خلال صور غير رسمية في ظل احتفاظه بطبيعته القديمة في الابتعاد عن الأضواء والعمل بصمت.
ثم ظهر في أحدث صور له وهو يلوّح لكاميرا إحدى القنوات العربية بعدم التصوير بينما كان يرتدي الزيّ العسكري كقائد لعمليات “الرمح الذهبي” التي أطلقها التحالف العربي لتحرير السواحل الغربية لليمن من أيدي ميليشيا الحوثي وقوات صالح.