صفحات أميركية من التاريخ الشفوي السعودي..

شهادات سفراء أميركيين في أزمات اليمن وحرب 1967

جدة في الخمسينيات

واشنطن

ثمة تاريخ كتب، وثمة تاريخ لم يكتب بعد، يستقى من أفواه من عاصروا الحدث ورووه. في هذه الصفحات، تترجم "إيلاف" بتصرف مقابلات جمعتها وأصدرتها "جميعة الدراسات والتدريب الدبلوماسي" (Association for Diplomatic Studies & Training)، تمثل روايات يرويها أميركيون خدموا في السعودية في خمسينيات القرن الماضي وستينياته وسبعينياته، كانوا مسؤولين في سفارة بلادهم أو في شركة أرامكو أو في البعثات الأخرى التي أتت إلى السعودية قبل الطفرة النفطية وفي خلالها، من أجل استخراج النفط، ثم من أجل بناء قاعدة الظهران الجوية. هذا التاريخ الشفوي للسعودية يتم نشره أول مرة، وبشكل حصري.

 

بوابة قاعدة الظهران الجوية في أول أيامها

 

من يروي هذه الصفحات مسؤولون أميركيون، كانت صلاتهم وطيدة بالحكومة السعودية. في هذه الحلقة تم نشر شهادات لثلاثة سفراء أميركيين سابقين، أولهم رايمون هاير، السفير الأميركي لدى السعودية بين عامي 1950 و1953، الذي يروي أن أحد أهم الرجال الذين تعامل معهم في فترة خدمته في السعودية كان وزير المالية آنذاك، الشيخ عبدالله بن سليمان، وهو سعودي نجدي، بدأ حياته تاجرًا، ثم سافر شرقاً إلى الهند، حيث تعلم اللغة الإنكليزية. لاحقًا، استقدمه الملك عبد العزيز ليصبح يده الأُمنى.

الأكثر تميزًا

يتذكر هاير الملك عبد العزيز في روايته، فيقول: "عندما أعيد النظر في علاقتي بالملك التي دامت أعوامًا، لا أستطيع إلا أن أقول إنه، بالنسبة إلي شخصيًا، يبقى الشخصية العامة الأكثر تميزًا بين الشخصيات التي صادفتها في خلال أربعين عامًا من الخدمة. كان عظيمًا من الناحية الجسدية، عظيمًا كمحارب، عظيمًا كرجل سلام، عظيمًا في توحيد المكونات القبلية المتنوعة لبلد واحد، عظيمًا كرجل ذي مبادئ عالية وإيمان ديني عميق، وعظيمًا بشكل خاص بتمتعه بفضيلة الحكمة الطبيعية. كان في الواقع تجسدًا فريدًا من نوعه في القرن العشرين لبطريرك بقالب توراتي. في هذه المناسبة، أقول إنه كان يتمتع بحس الفكاهة البشرية، فهو اقترح ملحًا على زوجتي بأنه سيكون سعيدًا أن يتخذ لي زوجة أخرى، بعد الحصول على إذنها طبعًا، وضحك بحرارة عندما أجابت أنني وجدت فعليًا زوجة واحدة مكلفة للغاية".

تخطيط استراتيجي

كان باركر هارت السفير الأميركي الخامس لدى السعودية، خدم بين عامي 1961 و1965، وكان أول دبلوماسي أميركي يتكلم العربية يتبوأ هذا المنصب.

يروي هارت: "كان تركيزنا على مدينة الظهران، فالجيش الأميركي كان يحتاج مكانًا لنصب مدرج لطائراته المروحية. آنذاك، كانت سياسة الاحتواء التي اعتمدها الرئيس هاري ترومان سارية المفعول. وفي يونيو 1950، اندلعت الحرب الكورية. حتى قبل أن تندلع، كان المزاج السائد في حكومة الولايات المتحدة متوترًا، وكان الجيش يخطط استراتيجيًا لمواجهة الاستيلاء السوفياتي على أوروبا الشرقية، والتهديد السوفياتي لإيران وتركيا".

يضيف: "كانت النتيجة الارتقاء بالمطار العسكري في الظهران، وتحديد هذا المجال في تخطيطنا الاستراتيجي. وكان الملك عبد العزيز على قيد الحياة، ولم يمانع نسج الصلات الوثيقة مع الولايات المتحدة. وطوال حياته، كان يرى في هذه الصلات أمانًا كاملًا لمملكته. وكانت رغبته ورغبة عائلته والعاملين معه تتمثل في نسج علاقة وثيقة مع الولايات المتحدة، وفي هذه المسألة لم يقلقوا من الرأي العام العربي في الدول المجاورة، بل جاء ذلك لاحقًا".
 
أزمة البريمي

في شهادته، يتناول هارت أزمة واحات البريمي، حين لم تكن الحدود بين السعودية والمحميات البريطانية، أي قطر وإمارات ساحل الصلح البحري وعُمان ومحميات عدن (جمهورية اليمن الديمقراطية الشعبية في ما بعد)، في منطقة الربع الخالي قد رُسمت بعد. اكتسبت هذه المسألة حدة في أواخر ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته عندما بدأ البحث عن النفط. في أواخر الأربعينيات، حصل نزاع بين السعودية وبريطانيا على واحات البريمي، وادعت إمارة أبو ظبي وسلطنة مسقط اللتين كانتا تحت الحماية البريطانية والسعودية ملكية الواحات. لم يقف هارت في جانب السعودية آنذاك. يتذكر: "بعد سنوات، عندما كنت مدير شؤون الشرق الأدنى، زار الأمير فيصل واشنطن في أواخر عهد ترومان، أخذني جانبًا وقال لي: ’أنت لست إلى جانبنا في أزمة واحات البريمي‘، أجبته: ’لا، لست كذلك، لأنني لا أعتقد أن موقفكم صحيح‘. بعد سنوات، عندما تم ترشيحي لأكون سفيرًا أميركيًا لدى المملكة العربية السعودية، فكرت في أن موقفي هذا سيشكل لي مشكلة مع السعوديين، لكن هذا لم يحدث".

أزمة اليمن

كذلك تناول هارت أزمة اليمن بين السعودية ومصر في عهد جمال عبد الناصر، ونقل عن الملك فيصل قوله: "هذا الوضع لا يمكننا التخلي عنه، لأنه يشكل تحديًا للمملكة، لا تحديًا لليمن فحسب. فالمصريون يوجهون سهامهم إلى المملكة العربية السعودية، واليمن نقطة انطلاقهم وعلينا أن نفعل ما بوسعنا لندافع عن أنفسنا".

 

حي سعودي قديم

 

يروي هارت تفاصيل مثيرة عن التدخل المصري في اليمن، وإرسال الأسلحة بالطائرات إلى اليمنيين الجمهوريين الذين ساعدهم عبد الناصر في الاستيلاء على الحكم، وسيطرة الطيران الحربي المصري على الأجواء اليمنية، وعلى أجواء الحدود الجنوبية للسعودية، وكيف ظن السعوديون أن المعلمين المصريين في المملكة ’طابور خامس‘، على الرغم من أن هؤلاء لم يتورطوا في أي مشكلة، بل كانوا في السعودية تحصيلًا للرزق لا أكثر.

تباين في وجهات النظر

السفير الثالث الذي تدخل شهادته ضمن هذه السلسلة هو هيرمان فريدريك إيلتس الذي عمل سفيرًا أميركيًا لدى المملكة بين عامي 1965 و1970.

كان هدف مهمة إيلتس، بحسب روايته الشفوية، تعزيز العلاقات الوثيقة بين الولايات المتحدة والسعودية، "لكن القضية أصبحت معقدة بسبب التباين في وجهات النظر بين حكومة الولايات المتحدة من جهة، والحكومة السعودية من جهة أخرى، بسبب قضية اليمن. فالولايات المتحدة اعترفت بالجمهورية العربية اليمنية، وكنا نحاول إقناع السعوديين بتهدئة الأمور قليلًا للتفاوض على تسوية تؤمن نوعًا من قبول السعوديين بالجمهورية اليمنية. كان ثمة اختلاف واضح في المصالح حول موضوع اليمن".

 

خيمة سعودية قديمة

يضيف: "بالنظر إلى المشاعر السعودية العميقة جدًا في القضية اليمنية، وحقيقة أن لدينا هذا التباعد في التوقعات، كانت المشكلة تكمن في الحفاظ على علاقات متينة بما فيه الكفاية لاستمرار الحوار من أجل العثور على بعض القواسم المشتركة في قضية اليمن. كانت تلك مهمتي الأساسية في تلك الفترة المبكرة".

مرارة سعودية

يقول إيلتس إنه قبل حرب 1967، كان دور السعودية في سياق الصراع العربي - الإسرائيلي محدودًا، فالدور السعودي كان قياديًا في العالم الإسلامي. مع هزيمة مصر وجمال عبد الناصر، اجتمع وزارء الخارجية العرب ثم القادة العرب في مؤتمر الخرطوم، وصار الدور السعودي بارزًا بشكل مفاجئ، "وكان الملك فيصل من أقنع القيادتين الليبية والكويتية لتنضما إلى السعودية في تقديم مبالغ مالية كبيرة لمساعدة مصر خلال فترة إغلاق قناة السويس وتوقف إيرادات عبور السفن فيها. ومنذ ذلك الحين، بدأ الدور السعودي في الشؤون العربية والإسلامية يرتفع".

 

الملك سعود مع الرئيس المصري محمد نجيب
 

يتابع إيلتس: "عقّد دعم الولايات المتحدة لإسرائيل في حرب 1967 علاقاتنا بالدول العربية، بما فيها السعودية. مرت هذه المسألة في مراحل عدة، فبعد حرب يونيو 1967، حتى في خلال انعقاد مؤتمر الخرطوم وحتى نهاية ذلك العام، لم ينضم ضباط الجيش السعودي إلى مهمات التدريب التي يقدمها الجيش الأميركي في السعودية، إذ كانوا يشعرون بالمرارة حيال ما حدث. حتى أصدقائي السعوديين، وهم أشخاص عرفتهم سنوات طويلة وعملت معهم، ابتعدوا عني وعن الأميركيين الآخرين. كان هناك شعور بالمرارة تجاه الموقف الأميركي".