دراما مصرية..
"طِلعت روحي".. تخرج من الواقع لتلامس الخيال

دراما معتدلة بخيال منضبط

واقع خيالي يروي قصصا غير قابلة للتحقق الفعلي في الحياة اليومية، لكن من خلاله يمكن رسم صور مقنعة لأحداث وأفكار تمنح المشاهدين حلما مجانيا بعالم أكثر بهجة، وهذا ما اجتهد في رسمه 11 مؤلفا هم فريق كتابة المسلسل المصري “طِلعت روحي”، الذي سلكت فكرته الرئيسية شكل الفنتازيا الفلسفية، إلاّ أن أحداثه مضت بشكل شديد الواقعية، تنتصر لقيم ومبادئ قد تكون غير موجودة في الحقيقة.
تبدأ أحداث العمل الدرامي بلا منطق مقنع، عبر اختلاط شخصيتي أو روحي بطلة العمل عاليا، وقامت بدورها الفنانة المصرية إنجي وجدان، وتعيش حياة روتينية وتعمل محامية مغلوبة على أمرها، وداليدا، وقامت به الفنانة سلمى أبوضيف.
وهي شابة مفعمة بالطاقة والحيوية وتسعى إلى العمل عارضة أزياء وتكوين أسرة مع خطيبها نديم (الفنان اللبناني نيكولا معوض)، ويلتحق بالصدفة يوم وقوع الحادث بين سيارتي عاليا وداليدا، وتوفيت فيه الأخيرة، وتبدلت شخصية عاليا بعد أن سكنت روح داليدا جسدها بنفس مكتب المحاماة الذي كانت تعمل فيه عاليا.
تبادل الأرواح
تنطلق الأحداث في انسيابية عقب تجاوز فكرة تبادل الأرواح والتي لم تأت مقنعة دراميا، كما كان الحال في فيلم “اللي بالي بالك” للفنان محمد سعد، والذي اضطر فيه المخرج لاستبدال عقل الضابط بكل صرامته واتزانه بمخ “اللمبي”، الشخصية الشعبية غير المنضبطة، للحفاظ على حياته، وكان هذا الخلط منجما للمواقف الكوميدية.
وفي “طِلعت روحي” نجد عاليا تخرج سليمة تماما من الحادثة حتى أنها تخرج في نفس اليوم من المستشفى لتجد نفسها عالقة في عالم لا تعرف عنه شيئا، ويعتقد الجميع أنها تعاني من فقدان مؤقت للذاكرة.
بعدها تلجأ إلى الصديقة سيرين (الفنانة ميار الغيطي) والتي تعيش في أجواء الهوس بأفكار الطاقة الإيجابية والتأمل والتنمية البشرية بمعناها السطحي، الذي يلقى رواجا في مصر، وهذه الأخيرة تأخذ عاليا إلى إحدى المختصات فيما يسمى علم الطاقة، وتخبرها بأن روح داليدا سوف تعيش معها إلى الأبد، وهو سر إذا علمه أحد غير صديقتها ستموت، لذا تظل عاليا وسيرين محافظتين على هذا السر حتى النهاية.
ثيمة العمل لها بعد نفسي وفلسفي عميق، وهو مقتبس من الدراما الأميركية “دروب ديد ديفا” التي عرضت عام 2009 للنجمين بروك إليوت وجاكسون هيرست، وتم تمصير فكرتها الرئيسية بحرص وخشية من التعمق في مسألة الروحانيات بصورة قد توقع كتابها في محاذير دينية، كان يمكن أن تمنع خروج العمل إلى النور، إذا تحدث أو ألمح أحد إلى هذا البعد.
نجح الكتّاب بحرفية في الهروب من هذا المأزق بالفعل، ولا يمكن محاسبتهم إذا تحدثوا بشأن هذه الفكرة مثل علم الطاقة، وعالم الجن والعفاريت، وغيرهما من وسائل الهروب المشروعة دراميا، والتي نالت من عمق المعالجة التي جاءت مهتمة بالاختلافات الشكلية بين عاليا وداليدا.
لم تقتصر براعة المؤلفين، على الهروب من هذا المأزق وعلى رأسهم شريف بدرالدين ووائل حمدي ومحمد المعتصم، بل بدت جلية في قدراتهم على تحويل الخط الدرامي الرئيسي بكل ما تضمنه من لبس في تفاصيله، إلى خط ثانوي مقارنة بالخطوط والأحداث الساخنة التي يشهدها مكتب المحامي بكير الحلواني (الفنان تامر فرج) الذي تعمل فيه كل من عاليا ونديم.
ويشهد المكتب يوميا احتكاكات بين المحامين العاملين فيه، لاسيما كاميليا (الفنانة هبة عبدالعزيز) والتي ترتبط عاطفيا ومهنيا لفترة بنديم، لكن سرعان ما تعود إلى قصة حبها الحقيقية مع بكير، وتيسير المحامي (الفنان إسلام إبراهيم) الشاب الطيب الذي يقع في غرام سيرين ويحقق قفزات في عمله، بينما نجد المحامي حامد النمام (الفنان حمدي عباس) يرتبط في نهاية المطاف بالسكرتيرة ماغي (الفنانة أميرة حافظ) في حين تظل فتنة (دنيا ماهر) المحامية الكئيبة في انتظار الزواج.
ورصد المسلسل قصصا أخرى شيّقة لزبائن المكتب، الذين تتوالى قضاياهم، ويتشارك فيها الجميع، وهي قصص واقعية تنتهي دائما بفوز أحد محاميي المكتب، خاصة عاليا.
حرص جميع المؤلفين على عدم الاعتماد على عالم استثنائي دون أن يتذوق الجمهور مع كل التفاصيل طعم المرح والبهجة والجمال في معظم قيمه، وتحوّل المكتب إلى عالم يعج بالحياة الحقيقية التي يتمناها معظم المشاهدين، ما خلق حالة من الارتباط بالعمل.
وتحولت العلاقة بين نديم وعاليا إلى أمر ثانوي نتيجة قوة البناء الدرامي لعالم مكتب المحاماة وشخصياته، لاسيما بكير الحلواني الذي لم يكن وليد الصدفة تحوله إلى بطل أول للعمل، مع أن البطولة على التتر كانت لنيكولا معوض، لكن قوة وطبيعية وحيوية أداء الفنان تامر فرج وضعته في المقدمة، بعد أن التزم نيكولا بالأداء المنضبط بلا لمسات شخصية، تمنح الشخصية التي يؤديها رونقا مختلفا.
وبدا المخرج رامي رزق الله، وقد أخرج أجزاء من برنامج “أسعد الله مساءكم” للفنان أكرم حسني، ومسلسل “هبة رجل الغراب”، مصرا على العمل في ساحة الكوميديا التي يجيد استخدام كافة أدواتها ومفرداتها ويملك ملكة اقتناص ما هو كوميدي من بين السطور والتركيز عليه.
ويحسب له ولمنتجي العمل المغامرة بفريق عمل أغلب ممثليه الأساسيين لم تتح لهم من قبل فرصة الأدوار الأولى، مثل إنجي وجدان، أو المساحات الطويلة للظهور على الشاشة، مثل إسلام إبراهيم وحمدي عباس وهبة عبدالعزيز.
زخم درامي
رغم تعدد الشخصيات وضيوف الشرف، حيث بلغ 155 شخصية، إلاّ أن المخرج تمكن من إحكام سيطرته عليهم، وعلى إيقاع العمل الذي لا يمكن تصنيفه بالرومانسي أو الكوميدي فقط، إذ تضمّن في القضايا التي كانت تعرض أمام المحاكم الكثير من القصص الاجتماعية والإنسانية، واستعان فيها بضيوف شرف من الوزن الثقيل فنيا.
وحافظ على الشعرة الدقيقة بين كوميديا الموقف والتهريج، وجميعها من الأمور التي تضيف إلى رصيده كمخرج تمكن من تقديم العمل باتزان وجاذبية وتشويق، بني على نص قوي وممثلين يعرفون تماما إمكانياتهم.
يعد “طِلعت روحي” امتدادا لزخم درامي حقيقي، وتنوع ثري تعيشه الدراما المصرية التي تشهد حالة تسليم وتسلم للأجيال على الشاشة الصغيرة في جميع مجالات العمل الدرامي، من كتاب ومخرجين وتقنيين وممثلين، بدأت تظهر منذ عامين، وتوجد حالة من الانتعاش في المتابعة داخل مصر وخارجها.
وتمر الدراما المصرية بما يشبه الثورة في استخدام الإضاءة والديكورات والملابس والإكسسوارات، وفي هذا المسلسل يظهر التفنن في استخدام كل هذه الأدوات لخلق المزيد من الأناقة والشغف بالعمل على الشاشة، كما أن الجمال في أماكن التصوير الداخلية والخارجية، أضفى جاذبية خاصة، لأن المشاهدين في حاجة ماسة لتلمس الجمال في الفن بعد استشراء القبح سنوات طويلة بحجة محاكاة الواقع.
“طِلعت روحي” عمل بلا أسماء كبيرة، لكن كل من عملوا فيه كانوا نجوما في أماكنهم، وظهر الاعتدال في تناول القصة والرؤية الإخراجية، ما ساهم في ترويج المسلسل فضائيا وإلكترونيا بصورة تؤكد أن هناك احتفاء جماهيريا بالدراما المغايرة، وربما تأخذ المشاهدين من عالمهم القاسي إلى عالم أكثر متعة وسعادة.