المخرج السوري طلال ديركي..

فيلم "عن الآباء والأبناء".. ذلك العنف المتوارث

الأطفال فقدوا براءتهم

أمير العمري

لا أتحمس كثيرا للكتابة عن “أفلام الحرب السورية”. والأسباب عديدة. أولا لأن غالبية هذه الأفلام تتشابه في ما تحتويه من صور ولقطات بل وتتشابه أيضا في مداخلها ومخارجها وأهدافها ومناهجها. وثانيا: أن معظمها لا يقدم جديدا على صعيد “الفن” أو حتى “الصنعة” السينمائية بحيث يمكن أن تثري الفكر والخيال قبل أن تكون مجرد “بيانات” أو “بلاغات” ضد نظام بشار الأسد أو ضد الجماعات الإسلامية المسلحة لحساب النظام أو لخدمة التوجهات الدولية في الغرب، بل وحتى “ضد الحرب” على صعيد مجرد. وهو نوع من الأفلام أراها مهما خلصت نوايا صناعها، “أفلاما دعائية” أي “بروباغندة” وهو أدنى أنواع الأفلام.

من المؤكد أن الجانب الإنساني في الصراع مهم، وبالتالي ينتظر الجميع اتخاذ موقف ما من جانب السينمائي أو حتى الناقد الذي يتناول الفيلم. ولكن كيف يمكن اتخاذ موقف واضح “نقي”، بعد أن أصبح الصراع الدائر في سوريا منذ سنوات، صراعا بين قوى شريرة وأخرى لا تقل عنها شرا؟ وبعد أن أصبح الثوار الحقيقيون الذين بدأوا الثورة السلمية التي كانت تحمل مطالب إنسانية نبيلة، قد أصبحوا مع ملايين السوريين الأبرياء، لاجئين خارج بلادهم؟ عن أي ثورة إذن يمكن أن نتحدث، وأي موقف يجب أن نتخذ؟

لهذه الأسباب يتعين على المرء أن يتوخى الحذر الشديد أمام أي عمل سينمائي جديد عن “الحالة السورية” المعقدة. وينسحب هذا القول على فيلم “عن الآباء والأبناء” للمخرج طلال ديركي، وهو الفيلم الذي حصل على عدد من الجوائز في بعض المهرجانات السينمائية الدولية، كما وصل إلى التصفيات النهائية ضمن مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي طويل.

فهو عمل يوقع المشاهد في حيرة مشابهة ربما للحيرة التي تتعلق بتحديد موقف من الوضع العام القائم في سوريا. هذه الحيرة ليست نتيجة غياب الموقف السياسي في فيلم يتناول بالضرورة وضعا سياسيا بامتياز، بل إن ديركي يتبع أسلوبا في تصوير ومونتاج وبناء فيلمه، يبدو للوهلة الأولى كما لو كان فيلما آخر من أفلام “البروباغندة”. ولكن هذه المرة، لحساب الطرف الآخر، أي الجماعات الإسلامية المسلحة، وتحديدا ما يسمى بـ”جبهة النصرة” التابعة لتنظيم القاعدة.


من عوامل الإرباك في الفيلم أن طلال ديركي، السوري المقيم في برلين، يعود إلى سوريا للمرة الثانية (بعد أن كان قد صور فيلمه السابق “العودة إلى حمص” في 2013) ويذهب إلى محافظة إدلب حيث يتمكن من دخول إحدى بلداتها التي يسيطر عليها عناصر من تنظيم جبهة النصرة، بعد أن يزعم أنه مصور صحافي يعتنق فكر الجهاديين السفليين ويريد أن يصنع مع مصوره قحطان حسون، فيلما عن نضالهم لا بد أن يعتبر بالضرورة عملا دعائيا.

لذلك يكتسب طلال ومصوره ثقة أحد زعماء التنظيم وهو رجل في الأربعينات من عمره يدعى “أبوأسامة”. وهو أب لثمانية أولاد. أكبرهم هو “أسامة” سماه على اسم زعيم تنظيم القاعدة الراحل أسامة بن لادن. أما البنات والزوجات فيغبن عن الفيلم. لكن سيأتي وقت نسمع صراخهن بعد أن يصاب أبوأسامة إصابة تفقده ساقه اليسرى ويعود إلى المنزل بعد أن يغادر المستشفى (الميداني).

وكما أننا لا نرى النساء في الفيلم احتراما لـ”خصوصيات” أبوأسامة الإسلامي الأصولي المتشدد الذي يستند في كل ما يقوم به في حياته اليومية إلى أحاديث ينسبها إلى النبي محمد، ليس معروفا بالطبع مدى صحتها أو دقتها أو على الأقل الأمانة في تفسيرها، لا نرى الجانب الآخر في الصراع سوى في لقطات محدودة كما في المشهد الهائل الذي يقتاد فيه أبوأسامة ورفاقه مجموعة من الشباب الغض من جنود الجيش السوري الأسرى تمهيدا على ما يبدو لذبحهم خاصة وأننا نسمع في بداية الفيلم عبر مكبر صوت رجلا ينادي ويحذر من أن وقت قطع الرقاب قد حان وأن على الجميع أن يستعدوا للموت.. أو شيء من هذا القبيل.

أبوأسامة رجل بسيط في تكوينه وأفكاره، وهو عندما يتحدث في السياسة يبدو كما لو كان يستقي من عالم الأحلام.. بل إنه يتطرق بالفعل إلى “الكوابيس″ أحيانا.. فهو مثلا يرى أن الحرب لن تستمر إلى الأبد، بل لا بد أن يأتي وقت تتعادل فيه الأطراف المختلفة، ولكن ستظهر بشارة تؤكد انتصار المسلمين على “الروم” طبقا لما ينسبه إلى النبي محمد، فهو بالقطع من أصحاب “اليقين المطلق” لا يراوده أدنى شك في انتصار الإسلام وإقامة دولة الخلافة الإسلامية ولكنه رغم ذلك يتحدث بنوع من الازدراء عن تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) رغم أنه لا يختلف في مبادئه وأهدافه عن تنظيم جبهة النصرة. ومرة أخرى وعلى نحو شديد السذاجة، ينسب إلى النبي محمد حديثا عن الرجل الذي لديه ولدان، ولد مطيع والآخر عاق.. ويرى أن تنظيم “داعش” هو الولد العاق!

حصل فيلم "عن الآباء والأبناء" للمخرج طلال ديركي على عدد من الجوائز في بعض المهرجانات السينمائية الدولية، كما وصل الى التصفيات النهائية ضمن مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي طويل
حصل فيلم "عن الآباء والأبناء" للمخرج طلال ديركي على عدد من الجوائز في بعض المهرجانات السينمائية الدولية، كما وصل الى التصفيات النهائية ضمن مسابقة الأوسكار لأفضل فيلم تسجيلي طويل
ينتقل الفيلم طوال الوقت بين أبوأسامة وأبنائه الثمانية بتركيز خاص على ولدين هما الأكبر أسامة (13 سنة) الذي يشرح والده للمخرج أنه ولد في 11 سبتمبر 2007 أي في الذكرى السادسة بالضبط لهجمات 11 سبتمبر 2001، وهو ما يعتبره بمثابة “معجزة”، أما ابنه الثاني “أيمن” (12 سنة) فقد سماه على اسم أيمن الظواهري الرجل الثاني في التنظيم. ويقول إن ابنه الثالث محمد عمر سماه على اسم زعيم طالبان (الملا عمر).

الأب وأبناؤه
الفيلم إذن ليس عن “الآباء والأبناء” بل تحديدا عن أب واحد هو أبوأسامة وأبنائه الثمانية الذين تتم تربيتهم وتنشئتهم لكي يصبحوا مستقبلا مقاتلين في صفوف التنظيم المسلح. وترصد كاميرا طلال ديركي بدقة وبشكل مثير، كيف يمارس هؤلاء الأطفال الذين تشع عيونُهم بالبراءة، حياتهم اليومية، بعد أن انقطعوا عن الذهاب إلى المدرسة استجابة لرغبة والدهم الذي يلقنهم مع رفاقه من القائمين على شؤون الشبيبة في التنظيم، مبادئ الشريعة ويغرسون في عقولهم غرسا، فكر الجهاد.

في لهوهم ولعبهم اليومي هم يترجمون العنف الذي نشأوا في ظله، فيعتدي أسامة على شقيقه بالضرب، ثم ينال بدوره عقابا جسديا صارما من والده الذي يلكمه ويركله ثم يأمر بحلق شعر رأسه، وعندما يلقي الأطفال بأنفسهم في بركة للسباحة عبارة عن حفرة في الأرض يملأونها بالماء عبر أنبوب موصل بشاحنة للمياه، يطلقون هتافات كما لو كانوا ذاهبين إلى معركة حربية.

إنهم يبدون كما لو كانوا لا يفرقون بين اللهو البريء والقتال.. فهم يجعلون من عبوة ناسفة في زجاجة بلاستيك، غالبا أحد الألغام الأرضية المموهة، كرة يركلونها بأقدامهم إلى أن تنفجر.

لكن التغير سيصبح تدريجيا ملحوظا فقد تابع ديركي ومصوره تلك الأسرة خلال عامين، أي أن الأطفال يكبرون ويفقدون طفولتهم ثم سيأتي يوم يرسلهم فيه أبوهم جميعا إلى معسكر التدريب العسكري حيث يتعين عليهم ممارسة التسلق والقفز وسط النار والانتظام دون حراك بينما يطلق مدربهم الرصاص قرب أقدامهم. سيبدو أن أسامة قد بدأ يفقد براءته ويندمج في دوره الذي وُعد به كمقاتل، أما شقيقه أيمن فيفشل في استكمال التدريبات لكونه دائما منصرفا بتفكيره بعيدا عن فكرة القتال والعنف.

الصرامة والقسوة والمشاعر الدموية تجعل أبوأسامة في لحظات المزاح يقول لرفيق له إنه يمكن أن يعذب ابنه الصغير بالصعق بالكهرباء، وعندما يداعب الطفل الذي يتطلع إليه في براءة ودهشة طفولية محببة، يقول له إنه يمكنه أن يخرق عينيه أو يدس السم له. يكرر مثل هذه الأقوال البشعة وهو يضحك في سعادة بينما يحدق الطفل في وجهه لا يمكنه أن يفهم ماذا يعني…

ورغم ذلك وفي مواقف أخرى، يمكن أن يكون أبوأسامة جذابا مرحا محبا للحياة، يتحدث عن رغبته في الزواج من ثلاث نساء أخريات، يقبل على الطعام، يمرح ويمزح مع المخرج الذي لا نراه أبدا في الفيلم بل يظل كامنا وراء الكاميرا، لا يتوقف ليسرد لنا مشاعره (ولو في مرحلة تركيب الفيلم) حتى بعد أن نشاهد أكثر المشاهد في الفيلم إثارة للقشعريرة وأكثرها إرباكا أيضا. فقد اختار طلال ديركي دور “الشاهد الصامت”.

داخل بعض أطلال المنازل المهدمة ومن خلال فتحة في الجدار يجلس أبوأسامة يصوب بندقية آلية، يطلق النار ويقول إنه أصاب شخصا سقط من فوق دراجته.. ثم يلتفت ويطلب في لهفة، بندقية أخرى بعد أن تعطلت بندقيته، فيناوله شخص من خارج الكادر بندقية أخرى مزودة بمنظار مكبر وعندما يصوب لكي يقضي على الشخص المصاب لا يجده في عين المكان، ويقول إنهم قد أبعدوه.. ولا يهتم طلال ديركي بمعرفة من الذي أصابه، وماذا كان يفعل، وهل كان يشكل خطرا أو كان مسلحا؟ فاهتمامه الأساسي ليس بالضحية بل بالصيد. بعقلية وتناقضات القاتل المدفوع بقناعاته “الأيديولوجية” التي لُقن إياها بدوره تماما مثلما يلقنها لأولاده.

سؤال أخلاقي
من المفهوم أن المخرج كان يخشى على حياته لو انكشف أمره كما يخبرنا في بداية فيلمه، لكن المشكلة أنه لا يضيف أي تعليق في ما بعد. وهنا يمكن أن يبرز تساؤل حول الموقف الأخلاقي للفيلم. طلال ديركي ليس مشغولا بتسجيل موقف سياسي، فهو غير معني بالضحايا، ولا حتى بالصراع الدموي الدائر في سوريا، بقدر ما يهتم برصد وتسجيل وتوثيق الحياة اليومية لأسرة بطريركية (الأب وأبناؤه) تنتمي وتعيش وينشأ أطفالها حسب تقاليد وأفكار القرون الوسطى.. كيف يتعامل أب مقاتل جهادي قناص، خبير قنابل وإزالة ألغام، مع أبنائه، وما مصير هؤلاء الأبناء، وكيف يتم تغذيتهم بالفكر الجهادي وتدريبهم على أعمال القتال بينما يعلم أبوهم علم اليقين أنهم سيلقون حتفهم في خضم النزاع المسلح.

هل يبرر هذا الرصد الصورة الإنسانية التي نراها بعد أن يصاب أبوأسامة وهو ينزع أحد الألغام فيفقد بالتالي ساقه اليسرى ويحمد الله لأنه ادّخر له ساقه اليمنى لكي يمكنه قيادة السيارة، ثم يرقد وهو يتألم وقد أصابته بعض الشظايا في وجهه فأفقدته القدرة على الرؤية بإحدى عينيه؟ هل يصبح مطلوبا منا الإعجاب بقوة شكيمة أبوأسامة ويقينه الديني الذي يجعله يواصل “الجهاد” ضد “الروم” والنظام السوري والأتراك والمعارضة والجيش الحر، الذين يعتبرهم جميعا “أعداء” لتنظيمه الذي يرى أنه الوحيد النقي الذي يكافح من أجل هدف عظيم؟ أم ندينه وندين ما يقوم به من أفعال، ونتعاطف مع أبنائه الأبرياء الذي يتم توريثهم عقيدة العنف والقتل والدماء؟

هذا ما يبدو أن المخرج قد تركه للمشاهدين حسب أنواعهم وانتماءاتهم وخلفياتهم.