استثمار الطاقات اللغوية..

أيمن باي يحلل النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح

غلاف الجراح

محمد الحمامصي

في دراسته "النزوع الدرامي في شعر نوري الجراح" ينبهنا الناقد أيمن باي إلى أن الشاعر نوري الجراح يعمد إلى استثمار الطاقات اللغوية وتوظيفها توظيفا مكثفا وممنهجا من أجل إحداث الإيقاع، وأنه يعول على الصورة في خلق التكثيف والشعرية، فيجدد فيها لتقوم الصورة لديه على الغريب والصادم مما يسمها بطابع سوريالي يحاكي سوريالية الواقع الدامي في سورية. وينبهنا أيضا إلى أن القصيدة "تحتوي في بنيتها على مجموعة من العناصر الدرامية المختلفة، التقليدية على غرار الصراع والمشهد الدرامي والقناع وتعدد الأصوات والحوار الباطني، أو المستحدثة كتوظيف التقنيات السينمائية في القصيدة بكيفية يصعب الفصل بينها، في أحيان كثيرة، كتداخل عنصر القناع مع عنصري الصراع والحوار الباطني، الأمر الذي يسبغ على القصيدة بعدا متفردا ينزع بها إلى الدرامي في وحدة عضوية متوهجة تراهن على الجمالي قبل الدلالي".

في مقدمته لهذه الدراسة الصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر اعتبر الناقد محمد آيت ميهوب أن هذا الكتاب بمثابة خطوة أولى في طريق ثابت منفتح دوما على حدائق وبساتين تربتها التعلق بجيد نصوص الشعر العربي الحديث، وشجرها السؤال ورفض البديهيات وثمرها الشوق إلى معانقة الكينونة بحثا وكتابة". واعتبر أن قصيدة "الأيام السبعة للوقت" اختيار موفق للبحث، فالشاعر نوري الجراح من أبرز الأصوات الشعرية وأكثر مجايليه حضورا وتجددا وارتيادا للآفاق البكر".

 

تطرح الدراسة إشكالية حــضــور الدرامي في الشـعــر العـربي الحـديث وتحديدا فى قصيدة النثر من خلال مطولة شعرية بعنوان"الأيام السـبـعـة للوقت" للجـراح، وذلك بالعـودة إلى العلاقة التاريخية بين الشعري والدرامي. وتحولات هذه العلاقة منذ أرسطو إلى اليـوم عبـر تشريح مصطلح الدراما وتتبع حـضــوره في النظام الأجناسي والبواعث المختلفة التي حتمت اتسام الشعـر العربي الحديث بنزعة درامية.

وقد تطرق البحث لأهم العناصر الدرامية التي حضرت في المطولة المدروسة، وهي عناصر مختلفة منها التقليدي، المتواجد في أي قصيدة درامية كالقناع والحوار الباطني ومنها المستحدث الذي سبغ على المطولة بعدا تحديثيا طريفا كتوظيف التقنيات السينمائية، وقـد درس البحث في فصل أخيـر دور اللغـة والإيقاع في التعبير عن المضمون الدرامي للمطولة والذي يتعلق بالحرب الراهنة في سوريا وهو دور أساسي.

 

ورأى أيمن باي أن "ما يلفت الانتباه في"الأيام الـســبعـة للوقت" تنوع صـور وأساليب تعدد الأصوات التي ساهمت في الترفيع من درجة الكثافة والتوتر فى القصيدة. وقـد توصلنا فى دراسة تعدد الأصوات في"الأيام السبعة للوقت" إلى صور التعدد التالية: تعدد الشخصيات- تغير اللهجة.

وأوضح أن الجراح انفـتح في"الأيام السبعة للوقت" على أصوات مختلفة ضمها إلى قصيدته، لأن التجربة المأساوية التي يعبر عنها شعريا ليست تجربة فردية محدودة وإنما هي تجربة إنسانية عامة، ولذلك كان استدعاء أصوات الآخرين ضروريا حـتى يبين(بأنه صـوت ضمن سـمفونية من الأصـوات التي تتجاوب عـبر الزمن وعـبـر حـدود المكان واللغـة)، ومن أهم المقاطع التي تبين تعدد الشخصيات في القصيدة نجد:

قال الممثل كنت قبل اليوم بلا صوت

ومسرحي معلق في ستاره

ملابسي سرقها الموتى

وصوتي

غاب

في

البئر

قالت طفلة: كنت بلا عينين

والآن

صرت فراشة

الرياضيّ صرخ: دمي صوتي . . .

ودحرج في ممر الموت عربة الهتاف

والصبي بادل النهار بابتسامته.

 

وقال أيمن الباي "يبدو تعدد الشخصيات جليا في هذا المقطع الشعري، الممثل- الطفلة- الرياضي- الصبي، وهي أصوات مختلفة لكنها تمر بالتجربة نفسها وتعاني معاناة الشاعـر. وفي ذلك تأكيدا لصوته وترسيخا لموضوعيته، فالشاعر يقف راويا لأصوات الآخـرين ومعبرا عن أفكارها في اقتباس لفكرة الجوقـة، فى العرض المسرحي مما يعمق من درامية القصيدة ويضفي عليها تموجا فى مستويات الأداء، غير أن تعدد الشخصيات فى"الأيام السبعة للوقت" لم يقتصر على مجموعة أصوات تعبر عن أفكارها في مـوضـوع واحـد في شكل جوقة، بل نجـد من الشخصيات من تحدث الشاعر عنها دون أن تتكلم، ومن ذلك: "وصلت شاحنة كـانت بالأمس تحـمل البطيخ والآن عائلات نائمة في أكفان حمراء وفلاحون صاروا حفارين، وقبور، قبور ، قبور...". تمثل"الأيام السبعة للوقت" إذن، خطابا شـعـريا مـتعـددا صوتيا بتعدد شخوصه، فالشاعر يعمد فيه إلى عرض وجهات نظر لأصـوات الآخـرين والتي تحمل في النهاية فكره ورؤيته. وهو تعدد يذيب أحادية الصوت فى الجماعة وينزع بالقصيدة إلى الموضوعية كمقوم أساسي في القصيدة الدرامية.

 

وأشار باي إلى أن تنويع اللهجة يمثل في النص الشعري أسلوبا من أساليب تعدد الأصوات، فبين هدوء اللهجة واحتدامها تتصاعد حركية النص ويزيد التوتر ويبرز الصراع. وتمثل كل نبرة صوتية صوتا قائما بذاته ومن ذلك قول الشاعر:

قالت طفلة: كنت بلا عينين

والآن

صرت فراشة

الرياضي صرخ: دمي صوتي..".

تظهر لهـجـة الرياضي شديدة مقابل لهجة الطفلة، وبين هدوء خطاب الطفلة وحسرتها وحدة خطاب الرياضي وغضبه، ترتفع نبرة الخطاب الشعري ويزيد التوتر وتمثل كل لهجة صوتا في ذاته، صوت الهدوء مقابل صوت الصراخ.

وأضاف "مثل تعدد الأصوات بشكليه: تعدد الشخصيات وتغير اللهجة سمة بارزة في"الأيام السبعة للوقت"، وعنصرا دراميا مهما سبغ على القصيدة بعدا موضوعيا كبيرا عبر دعوة أصوات الآخرين للتعبير عن مأساة إنسانية واحدة وأضفى عليها توترا من خلال هذا التعدد فى الأصوات واللهجات والمواقف والرؤى. وإن كان تعـدد الأصوات أسلوبا دراميا حديثا اتسمت به"الأيام السبعة للوقت"، فإن التقنيات والأساليب ذات المنحى السينمائى لا تمثل أسلوبا دراميا حديثا فحسب، بل طريفا يذهب بالقصيـدة إلى أبعد حدود تداخل الفنون والتقائها في نقطة إبداعية تروم التعبير عن فكرة مأساوية، بطريقة فنية مميزة تلائم هيبة الموضوع".

 

ورأى باي أن من وجوه التجديد في البنية الدرامية في"الأيام السبعة للوقت" هو اعتمادها على العديد من التقنيات السينمائية كعنصر درامي مستحدث، فالوعي التحديثي لنوري الجراح والنزوع بالقصيدة إلى أقصى حدود التجريب الدرامي، جعل القصيدة تنفتح على شتى الأنواع الفنية- غير الشعرية– والتي لم يكن يعتد بدراميتها في البناء الشعري من قبل، ومن ذلك التقنيات المستعملة في مجال السينما، كالمونتاج والتصويربالكاميرا والومضـة الورائية وقـد تبينا دور هذه التقنيات في إضفاء بعـد درامي واضح على"الأيام السـبـعـة للوقت"، مما جعلنا نصنفها كعناصر درامية في المطولة.

 

وأكد باي أن أكثر ما يجسـد دراميـة"الأيام السبعة للوقت" هو الصورة، وقال "فيها يتشكل المشهد بما فيه من حركة وتوتر، وعلى هذا الأساس تسهم الصورة إلى حــد بعـيـد "في بلورة النبرة الدرامية، ذلك أنها مرتبطة بالفعل متداخلة معه ولما كان الفعل يوحي بزمن ثابت استوعب الحاضر والماضي والمستقبل فإن الصور تتبع هذا التكثيف، لذلك تجدها تتراكم وتتجلى في شكل انفجارات داخلية دائمة 125 وتمتد على كامل القصيدة منتجة نسيجها الدرامي العام فتكون الصورة بذلك كلية.

وأوضح "لعل اللافت في طبيعة الصورة في"الأيام السبعة للوقت" هو أنها لم تكتف بهذا القدر من التجديد، بل ذهبت إلى أبعد من ذلك فأسست بلاغة جديدة ومستحدثة تقوم على الإخلال بالتناسب والتشابه بين عناصر الصورة، مما جعل هذه الصورة تقوم على الصــادم والمدهش وتنحى منحى غـرائبي وسـريالي، وأصبحت قادرة على تحفيز خيال المتلقي ومن ثم إشراكه شاهدا على الحالات الشعورية التي تعكس واقعا مضطربا ومنفرا، وقد وقفنا في دراستنا للصـورة في"الأيام السـبـعـة للوقت" على الصورة البلاغية وفيها الصورة التشبيهية والصورة الاستعارية، ونظرنا في الصورة التشخيصية".

 

وخلص أيمن باي أن الشاعر استثمر الطاقات الكامنة في اللغة والصورة وضروب الترديـد التي تتنزل ضـمن إيقاع الخطاب إضافة إلى الإيقاع المرئى من خلال التشكيل "المعـماري" للمطولة على فضاء الورقة من أجل التعبير عن المضمون الدرامي للمطولة أولا والحفاظ على الرهان الشعري والجمالى والتحديث للقصيدة ثانيا.