التقارب الإماراتي-الإسرائيلي..
تحليل: مُزايدات النظام التركي ولعبه على أوتار القضية الفلسطينية
جاءت المواقف التركية المُندِّدة بالتقارب الأخير بين الإمارات وإسرائيل وإبرام معاهدة السلام بين الدولتين، لتعكس حقيقة المواقف التركية من التطورات الإقليمية التي بدأت تحيط بها من جوانب عدة؛ فهي تعيش اليوم حالة من الاغتراب السياسي في أكثر من ملف، وبدأت تنسج علاقات وثيقة مع قوى الفوضى والانفلات في الشرق الأوسط، ودورها في العراق وليبيا مثال واضح على ذلك. وعلى هذا الأساس، فقد مثَّل الدور الإماراتي المتصاعد والمؤثر في أكثر من ملف إقليمي، إحراجاً لدور تركيا السلبي في المنطقة، وبدأ صانع القرار في أنقرة في قراءة تداعيات هذا التقارب على مستقبل الدور التركي في القضية الفلسطينية والقضايا الإقليمية المهمة الأخرى، مُظهراً خشيته من إمكانية أن تُحيِّد الإمارات أيَّ تحرك تركي على هذا المسار مستقبلاً.
مُزايدات النظام التركي ولعبة على أوتار القضية الفلسطينية
من الواضح أن مشكلة تركيا تتعلق بالإمارات أساساً، وليس بسبب التقارب مع إسرائيل، وهو ما أشار إليه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، في معرض تعليقه على هذا التقارب، إذ اقتصر حديثه عن إمكانية تعليق العلاقات الدبلوماسية مع الإمارات، دون أي إشارة لإسرائيل التي تعترف بها تركيا منذ عام 1947، كما أنها ترتبط معها بتحالف استراتيجي منذ عام 1996، وهي مؤشرات مهمة لطبيعة التعقيد الذي بدأت تُشكِّله الإمارات أمام التحركات التركية السلبية في عموم الشرق الأوسط ومنطقة الخليج العربي بشكل خاص.
وقد حاولت تركيا خلال الفترة الماضية، وتحديداً بعد تصاعد الخلاف مع السعودية، البحث عن مسارات سياسية كما هو الحال بالنسبة لإيران، تفرض من خلالها شرعية سياسية على أدوارها في المنطقة العربية، ووجدت في القضية الفلسطينية وتحديداً ملف القدس، وسيلة مهمة لتحقيق هذه الغاية. وعلى الرغم من جهودها للتقارب مع الأردن راعية الوصاية الهاشمية على المسجد الأقصى، وضغطها على الملك عبدالله الثاني للمشاركة في هذه الرعاية، إلى جانب مطالبتها المستمرة بتدويل الحج، إلا أنها لم تتمكن تحقيق شيء على هذا الصعيد، والأكثر من ذلك؛ فإنها تنظر إلى معاهدة السلام الإماراتية-الإسرائيلية بأنها يمكن أن تزيد من حالة الانقسام الداخلي الذي تعيشه حركة حماس في غزة، بين حماس الخارج المقربة من تركيا وقطر، وحماس الداخل المقربة من إيران.
ولا تزال منظمة التحرير الفلسطينية وحركة حماس غير قادرتين على إقامة علاقة صحية مع إسرائيل، ومن هنا سعت تركيا عبر علاقاتها الجيدة مع إسرائيل، إلى الدخول كوسيط لحل هذه المعضلة، لا سيما بعد عام 2009، إلا أن الطريق سرعان ما أغلق أمامها بسبب سياسة المحاور التي اعتمدتها على حساب القضايا العربية، وتحديداً بعد اندلاع ثورات "الربيع العربي"، ودعمها للإخوان المسلمين، ومساهمتها في حالة عدم الاستقرار الإقليمي إلى جانب إيران وقطر، اللتين شاطرتا تركيا ذات المواقف من التقارب الأخير؛ ولهذا فإن تركيا تخشى من أن تنجح الإمارات في طرح نفسها بديلاً عربياً فاعلاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، خصوصاً أن إسرائيل لم تعُد تَقبل بالرئيس التركي أردوغان وسيطاً في هذه القضية، وهو ما لا يستطيع هذا الأخير استيعابه في الوقت الحاضر.
هواجس وافتراضات تركية في غير محلِّها
حاولت الأوساط البحثية والأكاديمية في الداخل التركي، وتحديداً تلك المقربة من حزب العدالة والتنمية، الإشارة في العديد من الصحف والدوريات التي صدرت في الأيام الماضية، إلى أن التقارب الإماراتي-الإسرائيلي يأتي في إطار إكمال تطبيق مشروع "الشرق الأوسط الكبير" الذي يستهدف – كما تزعم تلك الأوساط - تقسيم تركيا بالنهاية، وأنه جزءٌ مكملٌ لصفقة القرن التي سبق أن أعلن عنها الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ومن ثمَّ فإن هذا التقارب قد ينعكس سلباً على الداخل التركي الذي يعيش اليوم أزمة اقتصادية كبيرة، باعتبار أن الثقل الاقتصادي الإسرائيلي في تركيا، المتمثل في العديد ن الشركات والمصارف، يُمكن أن يشكل الذراع الطويلة لهذا التقارب، وأنه سيؤثر على طبيعة الاستقرار الاقتصادي في تركيا في الأيام المقبلة.
وإلى جانب ما تقدم، افترضت وجهة النظر التركية أن إسرائيل قد اُضطرت في الآونة الأخيرة إلى البحث عن حلفاء مناسبين ليكونوا وسطاء، وإذا لم يتم العثور عليهم، فينبغي العمل على ذلك، وهذه الضرورة هي التي دفعت إسرائيل للتحالف مع اليونان في شرق المتوسط، أو حتى الدخول في اتفاقيات الغاز والطاقة هناك، ومن ثمّ فإن التقارب الإماراتي-الإسرائيلي، قد ينعكس على الدور التركي في شرق المتوسط أيضاً، كونه قد ينتج ترتيبات أمنية في هذه المنطقة تلعب فيها الإمارات دوراً فاعلاً، ما قد يفرض مزيداً من الأعباء والقيود على الدور التركي هناك.
وعلى صعيدٍ آخر، تتخوف تركيا من أن تجد حليفتها قطر نفسها مُجبرة في النهاية على الذهاب نحو تعزيز علاقتها هي الأخرى بإسرائيل؛ وقطر اليوم هي أكبر مستثمر اقتصادي وتجاري في تركيا، كما أنها ترسل بانتظام 15 مليون دولار شهرياً لحركة حماس في غزة، بعلم وإذن السلطات الإسرائيلية، ومن ثمَّ كيف ستمضي قطر في لعب هذا الدور إذا لم يكن هناك حوار مستمر بينها وإسرائيل؟ لذلك تريد تركيا الحفاظ على دور قطر عند هذا المستوى، دون أن يتحسَّن لمستويات أعلى، وبشكل قد يُجبِر تركيا على سحب قواتها العسكرية من قطر.
لذلك يمكن القول بأن الخشية التركية من الخطوة الإماراتية الأخيرة، تمثلت في أنها أعطت العالمين العربي والإسلامي رسالة مهمة مفادها أنها تفكِّر حقاً في الفلسطينيين، وأن هؤلاء لن يصنعوا السلام مع إسرائيل دون حماية الحقوق الفلسطينية وإيقاف إجراءات الضم لأراضيهم. وعلى الرغم من أن موضوع الضم قد يكون - من الناحية النظرية - خارج إطار العلاقات البينية الإماراتية-الإسرائيلية، إلا أن تأكيد الإمارات المستمر على هذه المسألة يؤشر إلى وجود فهم سياسي كبير لطبيعة الدور المسؤول في القضايا العربية، وهي رؤية لم تتمكن تركيا عبر علاقاتها الممتدة مع إسرائيل لـ73 عاماً، من تفهُّمها أو العمل بموجبها.
ونجاح الإمارات في هذا المسعى السياسي قد يُنتِج دولة فلسطينية تعيش في سلام مع جارتها في المرحلة المقبلة، بدعم مالي وسياسي منها ومن دول الخليج الأخرى؛ وهو أمرٌ لن يتمكن حتى اليمين الإسرائيلي المتطرف من إفشاله، طالما أن المساعي الإماراتية ستساعد على إيجاد دولة فلسطينية تعيش بسلام مع الجانب الإسرائيلي، وتحديد أي نوع من الدولة تلك سيكون بلا شك عبر الحوار بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، وسيؤدي ذلك في النهاية إلى دعم الدول العربية لهذا المسار العملي.
مشكلة تركيا العربية تتجاوز الإمارات
لتجاوز الواقع الإقليمي المعقد الذي بدأت تركيا تجد نفسها فيه، لا سيما بعد أن تم تحييدها من قبل قطاع كبير من العالم العربي، لأسباب تتعلق بدعمها للإخوان المسلمين في مصر وتونس وليبيا، والذي أنتج حالة من عدم الاستقرار السياسي والأمني في هذه الدول، وعلاقاتها السرية مع تنظيم داعش، وتحالفها مع إيران في العراق وسوريا، زادت الدعوات الموجهة لتركيا من أجل تعديل سياساتها وسلوكها غير الإيجابي في المنطقة، ومن ثمَّ فإن أنقرة مُطالبةٌ اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، بأن تحاول تطوير سياسات لمراكز القوة، بدلاً من الانخراط بشكل كبير في الشؤون الداخلية للدول العربية، وإعادة النظر في طبيعة علاقاتها المتشنِّجة مع مصر والسعودية، وأن تُدرِك بأن الطريقة الصحيحة للعودة إلى المنطقة بصورة مقبولة، سيكون عبر إقامة اتصال دبلوماسي بنَّاء معهما، وتقديم مبادرات تعاونية أكثر إيجابية تصب في صالح دول المنطقة وشعوبها، بعيداً عن سياسة الاستثمار في حالة عدم الاستقرار السياسي والأمني الذي تشهده منطقة الشرق الأوسط.
-------------------------