تفكك في أكثر المجتمعات عنصرية..
تحليل: "إسرائيل وجمع يهود العالم".. حلم لم يتحقق حتى الآن؟
يظهر للدارس أن الاتجاهات الأيديولوجية الصهيونية ـ على الرغم مما يبدو عليها من خلاف - إلا أنها تلعب أدواراً متكاملة، ولها في نهاية المطاف نسق أيديولوجي واحد. إذ يؤمن جميع الصهاينة بـ" فكرة العودة إلى أرض الميعاد لتأسيس دولة يهودية، تعبر عن الروح الخالدة للشعب اليهودي، وتكون حلاً للمشكلة اليهودية"، وهذه نقطة البداية والنهاية لهم جميعاً، والركيزة التي تستند عليها تحالفاتهم، أما المحتوى الاجتماعي للدولة فهي مسألة غير ملحة ومؤجلة وهناك أربعة اتجاهات ومدارس صهيونية تتفرع عنها اتجاهات وانقسامات أخرى، فهناك:
المدرسة الأولى: الصهيونية السياسية: وزعيمها الأول هرتزل، وهي التي سعت إلى تحويل المشكلة اليهودية إلى مشكلة سياسية دولية. وترى أن اليهود شعب ذو قومية محددة، وهو غير قادر على الاندماج في المجتمعات الأخرى، ولا يمكن حل مشكلته إلا بأن يصبح شعباً مثل كل الشعوب، ولن يحصل ذلك إلا عن طريق تهجير اليهود إلى فلسطين، ليعيشوا في وطن يهودي تحكمه دولة صهيونية، ولا يمكن تنفيذ هذا الطموح إلا بإشراف المجتمع الدولي وبمساندة القوى الكبرى، ومن أهم دعاة هذه المدرسة جاكوب كلاتزكين (1882 - 1948)، وماكس نوردو
وتعد الصهيونية التنقيحية أو المراجعة استمراراً للصهيونية السياسية ويعد فلاديمير جابوتنسكي V. Jabotinsky ، المنظّر الأساسي لها. وهي تُغلّب الجانب القومي على الجانب الديني، كما تؤكد على العنف وسيلة للتعامل مع الفلسطينيين. وهي ذات توجهات ليبرالية رأسمالية، وتتمثل أساساً في تحالف الليكود في الكيان الصهيوني، ويعد بيغن وشامير ونتنياهو وشارون امتداداً لهذه المدرسة
المدرسة الثالثة: الصهيونية الدينية: وهي تُغلّب الجانب الديني على الجانب القومي، وتسعى لتطبيق الشعائر اليهودية والشرائع السماوية والاحتكام إلى التوراة. وهي قسمان: القسم الأول: رأى أن الصهيونية السياسية على الرغم من علمانيتها الظاهرة إلا أنها ستسهم بالضرورة في خدمة القيم الدينية. وأنها في التحليل النهائي ليست إلا حركة دينية في حقيقتها وجوهرها، وقد انضم هذا القسم للمشروع الصهيوني منذ بداياته، ومن رُوّاده الأوائل الحاخام كاليشر، والحاخام موهيليفير (1924 - 1898) وكذلك اسحق كوك ولانداو، وأخذ هذا التيار شكله المنظم سنة 1902 بتأسيس حركة مزراحي "مركز روحي". ولخصت رؤيتها في شعار "التوراة والعمل". والامتداد الحزبي الحالي لهذا التيار يتمثل في حزب المفدال "الحزب القومي الديني"، ومن أبرز قادته حاييم شابيرا، ويوسف بورغ، ويتسحاق رفائيل، وزفولون هامر، وقد انشق عنه سنة 1981 حزب تامي، كما انشق عنه سنة 1983 حزب مَتْسا
أما القسم الثاني من الصهيونية الدينية: فقد رفض الصهيونية في البداية، بل وحاربها بوصفها مخالفة لتعاليم اليهودية، وكفراً ومروقاً من الدين وتخريباً للأسس الروحية والمادية للطوائف الروحية في العالم، وتمرداً على المشيئة الإلهية، وتعود بداية تكتل هذا التيار إلى سنة 1909، وأنشأ هذا التيار لنفسه حزب "أغودات إسرائيل" سنة 1912. لكنه مع مرور الوقت تبنى الهجرة والاستيطان وتعاون مع المؤسسات الصهيونية، ورأى أن "وعد بلفور" يتسق مع الوعد الإلهي، وسحب معارضته لقيام دولة يهودية، ويشارك باستمرار في الانتخابات والحكومات الائتلافية سواء العمل أو الليكود. وفي الوقت نفسه،
يرفض الاعتراف من ناحية دينية بـ"إسرائيل" دولةً يهوديةً، ولا يعترف بعلمها ونشيدها ورموزها ومناسباتها الوطنية، ويرفض خدمة شبانه في الجيش الإسرائيلي !! ومع ذلك يتسع صدر الدولة الصهيونية له ولأمثاله؟! ومن الرموز القديمة الأولى لهذا الحزب يتسحاق هاليفي، وإسحق ليفين. وقد تعرض هذا الحزب لعدة انشقاقات، ومن عباءته خرجت أحزاب شاس سنة 1984، و ديجيل هاتوراه سنة 1988
المدرسة الرابعة: الصهيونية الثقافية: وهي ترى أن الخطر الحقيقي الذي يهدد استمرارية اليهودية هو فقدان اليهود للإحساس بالوحدة والترابط وضعف تمسكهم بقيمهم وتقاليدهم. وهي تركز على توفر المناخ النفسي الملائم لليهود، وتجمّع اليهود في فلسطين لتكون المركز الروحي لليهودية، وإحياء قيمها وثقافتها. والفرق بينها وبين المدرسة الدينية أنه على الرغم من أن كليهما يؤمن بالقيم اليهودية، إلا أن الصهيونية الدينية ترى أن مصدر هذه القيم هو الله، أما الصهيونية الثقافية فترى أن القيم جزء من التراث والثقافة المرتبطة بإنجازات وبتاريخ الشعب اليهودي، أي أن الشعب هو مصدر القداسة. أي أنها ركزت على الجانب الداخلي في المشكلة اليهودية سبيلاً للإحياء اليهودي، وقدمت القومية اليهودية في هيئة رومانسية، ويطلق عليها بعض الكُتَّاب صهيونية عضوية Organic.
وأبرز دعاة الصهيونية الثقافية هو آشر جينـزبرغ (1856 - 1927) Aser Ginsberg ، المشهور بآحاد هاعامAhad Ha’am، ثم مارتن بوبر، وهذه الصهيونية ليس لها أحزاب محددة في الكيان الصهيوني، لأنها تعبر عن موقف يمكن أن يتبناه أي صهيوني، كالاهتمام باللغة العبرية والثقافة اليهودية
وبشكل عام فإن الحركة الصهيونية أثبتت مرونة في استيعاب هذه التيارات التي يظهر عليها التناقض، كما أثبتت التيارات إمكانية التعايش في أجواء الخلاف، بل والاستفادة من تناقضاتها لخدمة المشروع الصهيوني، وظلت الأفكار السياسية (اشتراكية، ليبرالية، شيوعية . . ) مضامين فكرية مضافة إلى بنية الأيديولوجية الصهيونية يمكن حذفها أو الاستغناء عنها أو عن بعضها عند الحاجة دون أن تتأثر البنية الأساسية. فمثلاً نجد أن حزبي المباي الاشتراكي والمبام اليساري حافظا على تحالف "إسرائيل" مع أمريكا والغرب، وأيدا التدخل الأمريكي في فيتنام، ووافقا على الاستثمارات الأجنبية الخاصة في "إسرائيل"، وتحالفا مع الأحزاب الدينية في الحكم. والليبراليون والرأسماليون يتحالفون مع الأحزاب الدينية ، ويأتلفون مع الأحزاب الاشتراكية ، ويقبلون عدداً من السمات الاشتراكية للدولة، كالكيبوتسات، ومؤسسة الهستدروت، ودور الدولة في القطاع العام..، كما أن الأحزاب الدينية مستعدة للمشاركة في الحكم، وتحقيق مكاسب حسب حجمها ، ولا تُصرّ عاجلاً على تطبيق تعاليمها الدينية وهكذا فإن الصهيونية الحقة تمزج بين جميع التيارات (صهيونية توفيقية)، فهي تتحرك دبلوماسياً لتنال التأييد "سياسية"، ويُوجِدُ المستوطنون حقائق على أرض الواقع تجعل التراجع عنها مستحيلاً (عملية)، وتجمع الضرائب وتشجع الرأسمال اليهودي (التنقيحية والمراجعة)، وتزود التنظيمات العمالية بالمساعدات (عمالية اشتراكية)، وتعبر عن فلسفة قومية (لا دينية)، وتقدم نفسها على أنها التعبير الوحيد عن اليهودية والمدافع عن التراث اليهودي (دينية)
هل حققت الصهيونية أهدافها؟
للصهيونية ستة أهداف أساسية تبلور الحلم الذي طالما سعوا وراءه، والذي بدأ يتجسد بإعلان قيام دولة إسرائيل، ولكن بعد 59 سنة من قيام دولتهم. هل تحقق الحلم الصهيوني؟
نستعرض فيما يلي الأهداف الصهيونية ومدى نجاحها:
1- أن تتحقق صهيونية كل اليهود، وهذا لم يتحقق حتى الآن، لأن الصهيونية حركة سياسية ولذلك من غير المنطقي أن يجمع عليها كافة اليهود، لأنه التاريخ لم يشهد حتى الآن إجماع بشري على نظرية سياسية واحدة.
2- أن تضم دولة إسرائيل كل يهود العالم لينتهي شتاتهم، وهذا لم يتحقق أيضا. لماذا؟
كانت تدعي إسرائيل سابقا أن اليهود محرومون من العودة إلى أرض الميعاد، لكن بعد تفكك الإتحاد السوفيتي، ظهرت الصورة لأن الغالبية كان يفضل الهجرة لأمريكا.
وتاريخيا تتحكم القوانين الاجتماعية في هجرة البشر من مكان لمكان، وهذه القوانين تقول أن الهجرة تكون من الأماكن الأقل أمنا إلى الأكثر أمنا، من الأماكن الأقل رفاهية إلى الأكثر رفاهية، من الأقل رخاء إلى الأكثر رخاء، من الأقل متعة إلى الأكثر متعة، وهذا ما يخضع له أيضا مسار الهجرات اليهودية، فعندما بدأ تسلل اليهود من الإتحاد السوفيتي كانت محطتهم هي رومانيا ومنها لإسرائيل ولكنهم بدلا من ذلك هاجروا لأمريكا،إلى أن اضطرت إسرائيل أن تأخذ جواز سفرهم حتى يذهبوا إلى إسرائيل.
لكن هذا لا يمنع وجود مهاجرين أيديولوجيين أمريكيين، وهؤلاء يمثلون قلة قليلة جدا.
3- أن يتحقق النقاء السكاني لإسرائيل بأن يكون كل سكانها من اليهود، وهذا لم يتحقق قط لأن سدس سكان إسرائيل من العرب (المسلمين والمسيحيين) وهذا فضلا عن اليهود ذوي الأصول العربية.
4- أن يتحقق الانسجام السكاني اليهودي داخل الدولة بانتهاء التمايز العرقي، إذ أنهم ينتمون إلى أكثر من 100 قومية، ولذلك تهدف الصهيونية إلى صهرهم داخل بوتقة واحدة واستخدمت اللغة والجيش كأدوات لهذا الصهر، ولكنه لم يحدث، والمجتمع الإسرائيلي من أكثر المجتمعات طبقية وعنصرية في العالم.
5- أن يتحقق النقاء الروحي للدولة وذلك بسيادة الطابع الديني وحُكم التوراة، وهذا لم يتحقق لأن إسرائيل دولة علمانية وهذا سبب سخط المتدينين لأن الممارسات الرسمية للدولة خارجة على تعاليم العهد القديم فالكوشير اختياري وليس إجباري والخمور متاحة بالرغم من حرمتها دينيا وهناك مؤسسات تعمل يوم السبت مثل الطيران، وربما كانت هذه الدولة تجسيد لحلم هرتزل ولكنها ليست حلم رجال الدين اليهودي.
6- أن تتطابق الخريطة الدينية لدولة إسرائيل مع الخريطة السياسية (من النيل إلى الفرات)، وهم الآن على جزء من أرض الميعاد وكاد حلمهم يتحقق في 1967 ،ولكن هذا الحلم بدأ يتقلص مع حرب أكتوبر 1973 وبمعاهدة السلام مع مصر 1979،وأي مفاوضات جديدة تدور حول انسحاب جديد وليس العكس.
- وهكذا لم تحقق الصهيونية أي من أهدافها حتى الآن.
لكن هل معنى ذلك أن الحلم الصهيوني يتهاوى؟
الإجابة: لا
لأن تعثُر الحلم الصهيوني أو حتى إخفاقه لا يعني تحقق الأمل العربي لأنه من الممكن أن يتعثر الحلم والأمل معا لحساب قوى أخرى، كما أن تعثُر الحلم لا يعني انتهاؤه تماما لأنه سيظل حلما لكثيرين من الصهاينة يسعون لتحقيقه.
--------------------------------------------
المصادر| الكاتب