صراع الإيدلوجيات وتناقضات المصالح..
تحليل: مذكرات العيني.. عقود من دخانِ الحروب وغبارِ السياسة باليمن
في سيرته الممتدة لنحو "خمسين عاماً في الرمال المتحركة" وهي عنوان مذكراته الشهيرة اختار محسن العيني أن يضع مجهره على نصف قرن فقط من صيرورات التاريخ وتبدلات السياسة وصراع الإيدلوجيات وتناقضات المصالح في اليمن والمنطقة العربية والشرق الأوسط والعالم.
كان العيني حاضراً في قلب أغلب هذه التحولات تقريباً مؤثراً ومتأثراً بها، مصارعاً من أجل تحويل دفتها لمصلحة بلاده منذ أن كان طالباً في "جامعة القاهرة"وبعدها في"السوربون" مروراً بتجربته القومية قريباً من حزب "البعث"، ومن ثم توليه رئاسة الحكومة ووزارة الخارجية معاً لأربع مرات، وتمثيله اليمن سفيراً في عواصم عالمية رئيسية عدة، وممثلاً له في أهم الهيئات والمنظمات الدولية.
أسباب إرجاء اعتراف بغداد
عندما ذهب العيني إلى بغداد للتشاور مع قادتها حول تطورات الوضع في اليمن بعد أسبوع من اندلاع ثورة الـ 26 من سبتمبر/ أيلول 1962أبلغه رئيس الوزراء العراقي الراحل عبدالكريم قاسم خلال اجتماعه معه ببرقيات وصلته للتو تفيد بأن قادة الثورة الوليدة في صنعاء أعلنوا تعيينه (العيني)كأول وزير خارجية لحكومة الجمهورية العربية اليمنية الفتية.
طلب العيني من عبدالكريم قاسم تأجيل اعتراف حكومته بالحكم الجمهوري الجديد في صنعاء إلى ما بعد اعتراف مصر "تفادياً لإثارة أي حساسية مع القاهرة التي تحرص على أن تكون أول دولة تعلن الاعتراف بالثورة والجمهورية في اليمن، حيث كان الخلاف على أشده بين القاهرة وبغداد" حول ملفات شتى.
سجال مع عبدالناصر
ثم ذهب العيني عبر بيروت إلى القاهرة للاجتماع مع جمال عبدالناصر للتشاور أيضاً ،سعى العيني خلال نقاش طويل إلى تلطيف الأجواء بين الزعيمين، عبدالناصر وقاسم، بما يخدم التحول الجديد في اليمن.
كان العيني غير محبذ للتدخل العسكري المصري المباشر في اليمن، لكن عبدالناصر طلب منه الذهاب إلى صنعاء والعودة بتقييمه للوضع هناك.
وفي لقاء تال في أكتوبر/ تشرين الثاني 1962 بعد عودته من صنعاء شرح العيني لعبدالناصر تعقيدات الأمور في اليمن سياسياً وعسكرياً، فطلب منه عبدالناصر البحث أكثر في تفاصيل الموقف مع نائبه أنور السادات الذي كان مؤيداً بقوة لفكرة التدخل، بل وفرض على قادة الثورة القبول بصديقه عبدالرحمن البيضاني السفير الأسبق للحكم الإمامي في ألمانيا ليصبح نائباً لرئيس الجمهورية ونائباً للقائد العام للقوات المسلحة ووزيرا للخارجية.
بسط العيني أمام السادات كل التفاصيل بأدق تفاصيلها وجميع المعلومات التي وقف عليها، والأفكار التي خلص إليها خاصة في ما يتعلق منها بالعواقب المحتملة لتدخل الجيش المصري مباشرة في القتال خصوصاً مع رجال القبائل الأشداء المتمرسين على حروب العصابات في المناطق الجبلية عالية الارتفاع ووعرة التضاريس التي لم يتدرب جيش مصر على القتال في مثلها.
قال له السادات:"يبدو أنك منزعج، أريدك أن تطمئن إلى أننا نعد لكل أمرٍ عُدته، ولكل احتمالٍ ما يلزم، هذه القبائل ينبغي ألاّ تزعجنا، هل تعرف أننا الآن في سبيل إرسال الصاعقة إلى اليمن؟ إننا ندرب جنود الصاعقة على اكل الثعابين، فمن يستطيع الوقوف أمامهم؟".
فقال له العيني:" يا سيدي هؤلاء سيواجهون قبائل شرسة هي جزء من الصخر، من الجبل، قبائل في بعض المناطق الثعابين عندها فاكهة".
الجلوس على مقعد اليمن أمام العالم
بعد أيام كان العيني في نيويورك يخوض معركة دبلوماسية حامية مع وفد الحكم الإمامي الذي سبقه إلى هناك لشغل مقعد صنعاء في الجمعية العامة للأمم المتحدة.
ساهم الرئيس الجزائري الراحل، أحمد بن بلا، في حسم هذه المعركة لصالح وفد حكومة الجمهورية الجديدة، ثم دعا العيني إلى عشاء حضره الأمير فيصل رئيس الوفد السعودي - الملك لاحقاً - حيث وصفه العيني بأنه كان خلال حديثهما معتدلاً ويفكر في حل للنزاع مع الجانب الملكي، وفي إيقاف التدخل. قال له الفيصل إنه"إذا لم يكن هناك تدخل خارجي، ولم يكن النظام الجديد معادياً للسعودية فلا يوجد سبب للخلاف".
لكن العيني يضيف أن البعض :"يعلل تشدد فيصل بعد ذلك عندما عاد إلى بلاده بتصريحات بعض المسؤولين في صنعاء وتحديهم" لآل سعود.
هل قال العيني كل شيء؟
بـ "القليل" الذي قاله العيني في مذكراته (354 صفحة) قال "الكثير" مما لم يقله غيره، ولا يتسع المجال هنا لعرضه ، لكنني أريد أن أرسم صورة العيني كما تشكلت في ذاكرة جيلي،وذلك منذ رأيته لأول مرة وأنا في أولى سنوات الدراسة الإعدادية، وهو يفتتح مدرسة "الكوفة" التي مولت بغداد بناءها في مدينة ذمار جنوب صنعاء.
معركة القات
محسن العيني الذي قضى قسطاً طويلاً من حياته في الغرب، دارساً في أعرق جامعاته، وأول وزيرٍ لخارجية العهد الجمهوري وسفيراً في أكثر عواصم العالم أهمية، متأثراً إلى حد بعيد بقيم الغرب وتقاليده ومثله المدنية والثقافية والاجتماعية، كان معروفاً لدى الجميع خلال قيادته لمعركة التحديثب معاداته الشديدة لنبتة (القات) وبحملاته الواسعة للتوعية بمضارها وأخطارها.
كما اتخذ العيني سلسة إجراءات تدريجية للحد من زراعة القات في الأراضي الموقوفة، وإبعاد أسواق بيعه خارج العاصمة وبقية مدن البلاد، وحض موظفي الدولة على مقاطعته. وهذا ما بدا أشبه بثورة ثقافية يخوضها العيني لوحده ما كان لها أن تفشل لولا تدخل رموز من المؤسسة القبلية لوأدها.
كنت حائراً بين الرئيس الراحل إبراهيم الحمدي، الذي اختار العيني رئيساً لأولى حكوماته - ويرى في مضغ القات مجرد "عادة" تدخل ضمن حقوق الفرد وحريته الشخصية، وبين العيني، الذي كانت سيرته العلمية والسياسية مثار إعجاب أغلب النخب المتعلمة والمثقفة، حيث كان يمقت هذه النبتة، وكانت أطروحاته تقنع الكثيرين بأن نبتة القات مضيعة للوقت وإهدار للمال والناتج القومي، خصوصاً بعدما أخذت زراعتها تحل محل زراعة البن اليمني ذائع الصيت، وتستهلك الكثير من المياه الجوفية، وتتسبب في الكثير من الأمراض الخطيرة كالسرطان بعد الاسراف في استخدام الكيماويات للإكثار من إنتاجه لأغراض تجارية خاصة.
لقاء الأجيال
لمرتين في حياتي التقيت محسن العيني، السياسي العتيد والدبلوماسي المحنك، والرجل الأكثر أهمية في معتركات اليمن قبل وبعد وصوله إلى رئاسة حكوماته الأربع.
لقائي الأول بالعيني كان في شهر فبراير/ شباط 1990 في مكتبه في واشنطن عندما كان سفيراً لبلاده وعميداً للسلك الدبلوماسي العربي والأجنبي في العاصمة الأمريكية لسنوات عدة، وذلك عندما رافقت الرئيس الراحل علي عبدالله صالح أثناء زيارته لها، واكتشفت أن العيني يحظى بعلاقات جيدة مع البيت الأبيض والخارجية وغيرهما من المؤسسات والجامعات الأمريكية،وخلال هذا اللقاء لم أشعر بأن العيني كان مختلفاً عن صورته في ذهني عنه وعن رفاق جيله من الرعيل الأول للحركة الوطنية اليمنية.
أعتقد أن العيني ساهم في تشجيع الإدارة الأمريكية مع رئيس شركة "هنت" النفطية الأمريكية التي كانت تستثمر في اليمن "راي هنت" للقاء صالح والاستماع إليه كأول رئيس يمني يجتاز عتبات البيت العالي السعودي دون إذن هذا الباب والذهاب مباشرة إلى المكتب البيضاوي في واشنطن.
سألت العيني عما إذا كان بمقدور صالح تبديد هواجس الأمريكيين إزاء مشروع الوحدة في اليمن مع الحزب الاشتراكي الحليف الأخير للاتحاد السوفياتي السابق، فكان رد العيني بما معناه أن هذا الأمر بات غير مهم ولا وارد بالنسبة لواشنطن بعد انهيار سور برلين، خصوصاً أن جورج بوش الأب زار صنعاء عندما كان نائباً للرئيس ووقف على صورة الوضع في اليمن بنفسه.
كان هناك اثنان في الشرق الأوسط يتلهفان بنفس القدر من الاهتمام لمعرفة نتائج زيارة صالح ولقاءاته مع بوش ووزير خارجيته جيمس بيكر، أحدهما الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي أرسل طائرته الرئاسية لتقل صالح إلى واشنطن وخلال تنقلاته في عدد من الولايات الأمريكية. والثاني كان العاهل السعودي فهد بن عبدالعزيز الذي لم تتبدد هواجسه حيال هذا اللقاء إلا بعد اجتماعه المغلق في حفر الباطن مع صالح لأربع ساعات بناء على طلب من صدام.
أما اللقاء الثاني مع العيني فتم في 19 يناير 2020 في منزله في القاهرة، أي بعد ما يقرب من عقدين من الزمن.
تحدث إليّ العيني مطولاً خلال هذين اللقاءين عن تجربته في السياسة والحكم رئيساً للوزراء ووزيراً للخارجية، وسفيراً في أهم عواصم القرار الإقليمي والدولي خلال مراحل عاصفةٍ من تاريخ اليمن والإقليم والعالم.
كان في مذكراته التي قرأتها مرات عدة كاملة أو مجزأة الاختيارات يبدو أكثر تركيزاً مما بدا عليه في أحاديثه الشفهية معي ربما بحكم تقدمه في العمر حيث ولد في العام 1932تقريباً، لكنني في المجمل كنت أشعر أنه لا يزال هو ، المثقف العميق، العقل التحديثي، صاحب الذاكرة الخصبة، واللغة التصالحية ،والنظرة الثاقبة في جوهر الحياة، بل كنت في حاجة إلى التحقق منه عما ظل يشغل بالي من الأسئلة وما كنت محتاجاً إلى مقارنته مع ما كان معلوماً لدي من وقائع ومعلومات بشأن قضايا محددة في زمنه.
كعادته كان العيني متحضراً، متمديناً، عذب الحديث وحلو المعشر، أكرمني بوقته كثيراً، وأجزل عليَّ بما عهدته فيه من أدب رجالات عصره لدرجة لا يمكنني معها سوى الثقة به والاقتناع بصحة كثير مما يطرحه وحسن الظن بما تحدث به إليّ سواء عن الآخرين ومواقفهم أو عن دوره في التاريخ السياسي الحديث لبلاده.
لم تخل أحاديثه معي عن مواجهاته المشهودة في لقاءاته مع قادة اليمن أو ملوك وزعماء الإقليم ورؤساء العالم في الغرب والشرق؛ الغرب الذي درس فيه علماً وتمرس ديبلوماسيةً وسياسة، ومع عمالقة الاشتراكية في الشرق، روسيا والصين وغيرهما.
لقد كان منصفاً للكل، بما لهم وما عليهم، قادة اليمن الكبار برغم تحفظه على ممارسات البعض منهم، ثم لعبد الكريم قاسم وصدام حسين في العراق بكل ما انطوت عليه عهودهم من عنف ومغامرات، ولعبد الناصر والسادات مصر ثالثاً بصرف النظر عما شهدته علاقته بهما وببعض مساعديهما من مواجهات وجدل، ولملوك وأولياء عهود السعودية وأمرائها آخراً ممن لم يبد أنهم وثقوا به رغم إعجابهم بشخصه، ولا هو تحمل الصبر حين يحسن الصبر على مواقف بعضهم تجاه بلاده.