قصة قصيرة..
لقد دُعيت – (6)
في اليوم الحادي عشرَ من ذي الحجةِ من عام 1439،
وهو يوم الجمعةِ الثانيةِ وانا في مكة،
كان عليَّ أن أذهب الى الحرم لأداءِ فريضةِ الصلاة.
توقَّفَتْ سيارةُ أجرةٍ، فركبْتُ فيها مع اخرين.
صادفَ أن جلستُ جانبَ شخصٍ تكلَّمَ مع آخرَ بلهجةٍ عراقية،
قلتُ له السلامُ عليكم، انت عراقي؟ قال نعم وانت؟
قلت وأنا أيضًا، قال لهجتُكَ مختلفةٌ بعضَ الشيْئ،
قلتُ هذا صحيحٌ، فأنا من الغربيَّة.
تحدثنا قليلًا، واذا بامْرأةٍ تقولُ للسائقِ بلهجةٍ عراقيةٍ جنوبيَّة،
فيما إذا كان يقبلُ دنانيرَعراقيةً،
ويُعطيها ما يعادلُها ريالاتٍ سعوديةً،
قال لها: لا اقبل.
ظَنَنْتُ لأولِ وهلةٍ أنها لا تملكُ إلّا الدنانيرَ العراقيةَ،
وهي بذلك مع صاحبتها، لا تستطيعان مواصلةَ الذهابِ الى الحرم،
فانْدفعْتُ بسرعةٍ لأقولَ لها:
لا عليكما، سأدفعُ عنكما، فقالت:
ابداً نحن دفعنا، وموضوعُ الإبدالِ هو موضوعٌ آخر،
وأَخذتْ تدعو لي،
وتدعو وتدعو وتدعو حتى ابتلَّتْ لحيتي.
حمدًا للهِ وصلتُ الحرمَ باذلًا جهدًا أقلَّ من المرَّةِ السابقة.
يمَّمْتُ وجهي شطرَ الحرمِ عن طريقِ التوسعةِ الحديثةِ،
وقبلَ دخولي رأيت شرطيًّا واقفًا، فتقدمتُ إليه مستفسرًا...
السلام عليكم،
وبدلاً من أن يردَّ السلامَ، إذا هو يدفعُني دونما سببٍ،
فما كان مني إلًا انْ مسكتُهُ بشدّةٍ، وسحبتُ يدَهُ،
وبدأتُ ألقِّنُه درسًا لا أظنُّ أنه قد اسْتوعبه!
قلت له: إنَّ البدلةَ التي تلبسُها،
تحتِّمُ عليك أن تتعاملَ مع الآخرين برفق،
انت تمثل دولةً، فإذا كان هذا تعاملك مع كل الناس،
فأخشى أنَّك تُسيئُ إلى بلدك، اِذ أَنك عندها تعكسُ انطباعًا سيّئًا عنها.
تذكَّرْ أنك تتعاملُ مع أكثر من مائةِ دولةٍ،
والانطباعُ الجيدُ خيرٌ من ضدِّه؛
لو كنت تفقَهُ ذلك، ولا أَظن.
تركتُهُ وعينُهُ تنظرُ اليَّ شَزَرًا دون أن يتكلم.
كنت مستغربًا من هذا التصرُّفِ الغريبِ،
فقد اختلفَ عن سلوكيات أقرانِه ممَّن تعاملتُ معهم وشاهدت،
كانوا يتعاملون بأرقى خلقٍ مع الحُجّاج،
فكانوا محطَّ احْترامٍ وتقدير.
دخلتُ الحرمَ قبل صلاةِ الجمعة،
والحرمُ يعُجُّ بآلافِ الناسِ من شتى دول العالم.
قسمٌ يجلسُ، وآخرُ يطوفُ، وآخرُ يقرأ القرأن.
هكذا شَقَقْتُ الطريقَ دونَ أن أجدَ مكانًا غيرَ أن أجلسَ
على درجةٍ من درجاتِ السُلَّمِ الذي يوصلُ إلى الطابقِ الثاني.
أجلسُ هنا، وانظرُ إلى الكعبةِ، وأنا المغرَمُ بالنظر اليها.
مرَّ احدُ عمالِ الحرمِ الأجانبِ يحملُ كُؤوسًا فارغةً.
ناديتهُ باللغةِ الإنكليزية بأن يتفضَّلَ عليَّ بكأس.
تناول أحدُ الحجاج الكأس فملأهُ ماءً، وأعطاهُ لمن خلفه،
وهكذا انتقل الكأسُ من يدٍ إلى أخرى حتى وصلني، فشربتُ وارتويت.
صورٌ لطيفةٌ التقطتْها الذاكرة، ستبقى إلى أن يشاء الله.
خرجت بعد أن أديتُ صلاةَ الجمعة باحثًا عن واسطةِ نقل.
سرتُ طويلًا في شارعِ مكة انتظر سيارةَ أجرة،
كنت كلَّما أوقفتُ سيارةً،
اجابني سائقُها أنه لا يذهبُ إلى العزيزية بحجة غلق بعض الطرق.
اخيرًا توقَّف أحدُهم وقال: اركبْ، ثم سمح لآخرين أن يركبوا.
حقًّا كانت طرقٌ عديدةٌ، في مكة حينها، مغلقةً،
فاسْتغرق الطريقُ الذي سلكه، وقتًا طويلًا جدًّا،
ثمَّ أنزلني في مكانٍ بعيدٍ عن محلِ سُكنايَ،
لكني مشيتُ حتى وصلت.
نمتُ ساعتينِ ثم تهيأْتُ للذهابِ إلى مِنى،
لرمي الجَمَرات الصغرى والوسطى والكبرى،
في اليوم الأولِ من ايامِ التشريق،
وهو الحادي عشرَ من ذي الحجة.
كان عليَّ أن أبيتَ في كل يومٍ من أيامِ التشريقِ الثلاثة في مِنى،
ثم أرمي الجمراتِ الثلاثَ بسبعِ حُصَياتٍ لكلٍّ منها، في كل يوم.
ولمّا كان المكانُ الذي اسكنهُ في العزيزية،
لا يبعدُ إلاّ مسافةٌ قصيرةٌ عن مِنى، وحرصًا على أن أبيتَ في مِنى،
بدأتُ في كلِّ يومٍ من أيامِ التشريقِ،
اذهبُ ليلًا مشيًا إلى أن أدخلَ في حدودِ مِنى، أُسوةً باۤلافٍ اخرين،
وأجلسُ حتى اصليَ الفجرَ ثم أذهب الى البيت.
أما خلالَ النهارِ، فأذهبُ لأُكمِلَ رميَ الجمراتِ ثم اعود.
فعلت هذا ليومين من ايام التشريقِ وعجَّلْتُ في الثالث.
لم يبقَ لي إلاّ طوافُ الإفاضةِ والسعي وطوافُ الوداع.
كانت هناك مواقفُ طيبةٌ في مكوثي هذا في مِنى،
حدثت دون تخطيط مني.
كنت في اليوم الأولِ أبحث عن مكانٍ أجلسُ فيه،
فالأماكنُ ضيقةٌ والأعدادُ هائلةٌ، والشرطةُ تحددُ أماكنَ الجلوس.
قادني بحثي الى أن أجلسَ مع مجموعةٍ فيها مكانٌ يكفي أن أجلسَ معهم.
وبعد أسئلةٍ وأجوبةٍ عن اسمي ومن أين انا، رحّبوا بي أيَّما ترحيب.
وحين قلت لهم انني أصلًا أعودُ الى بني نُمَي من الحجاز،
ازدادَ ترحيبُ أحدِ الشبان الجالسين وكان من زَبيد،
وبدأ يسرد أخبار أحد أبناء بني نُمَي،
وما عقده من حلف مع قبيلة زَبيد في القديم،
ثم أشار الى وثيقة تؤرخ لهذا الحلف منشورةٍ، نصحَني بمراجعتِها.
على أيةِ حال كانت جلسةً طيبةً امتدت إلى صلاة الفجرِ،
فصليتُ ثم غادرتُ مِنى إلى البيت،
وأنا محمَّلٌ بطيِّب الذكريات، وماتعِ الإنطباعات.