مآل 'ثورة أكتوبر'... مآل النظام الايراني

قبل مئة عام قامت "ثورة أكتوبر" بقيادة لينين الذي اسّس دولة امنية ما لبثت ان انهارت في العام 1992. عاش الاتحاد السوفياتي ثلاثة ارباع القرن. كشفت تجربته انّ لا مستقبل لمثل هذه الثورات التي تستخدم كلّ أنواع الشعارات لتغطية فشلها في بناء دولة ديموقراطية يستطيع فيها الانسان العيش حرّا يؤمن بما يريد الايمان به في ظلّ اقتصاد السوق.

فشلت التجربة السوفياتية. كان فشلها ذريعا. لم يحل دون هذا الفشل بناء ترسانة نووية وإنتاج صواريخ باليستية ولا إقامة توازن رعب ولا إقامة مناطق نفوذ في انحاء مختلفة من العالم، بما في ذلك اختراع دولة اسمها المانيا الشرقية. لم تنجح التجربة السوفياتية في ايّ مجال من المجالات باستثناء انتاج السلاح. كشفت الحروب العربية مع إسرائيل انّ هذا السلاح لم يكن فعّالا باي شكل، ذلك ان عبور قناة السويس في العام 1973 كان بفضل الجندي المصري اوّلا وليس بفضل السلاح السوفياتي. هل من يريد ان يتذكّر ان أنور السادات طرد الخبراء السوفيات من مصر في العام 1972، أي قبل اكثر من سنة على "حرب أكتوبر" او "حرب تشرين"؟

في كلّ الأحوال، لم يكن هذا السلاح السوفياتي يوما سوى لقمع الشعوب. قمع الشعب المجري في 1956 وذلك بعدما ارتكب ستالين كلّ أنواع المجازر في حق الشعوب السوفياتية. بعد اخضاع الجمهوريات السوفياتية بالحديد والنار، كان لا بدّ من إعطاء درس تلو الآخر الى دول أوروبا الشرقية التي وضعها الاتحاد السوفياتي تحت مظلتّه بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية. كان نزول الدبابات السوفياتية الى شوارع بودابست مجرّد بداية في 1956. تلا ذلك تجربة "ربيع براغ" في 1968. قضت الدبابات السوفياتية على "ربيع براغ" وقضت عليه ايضا أيضا نظرية "السيادة المحدودة" التي نادى بها ليونيد بريجنيف، خليفة ستالين وخروشوف. جاءت بعد ذلك تجربة بولندا في مطلع الثمانينات. استُخدم في بولندا الانقلاب العسكري بقيادة الجنرال ياروزلسكي تفاديا لنزول الدبابات السوفياتية مجددا الى ساحات وارسو والمدن البولندية الأخرى لقمع العمّال والفلاحين الذين تسلّحوا بفعل الايمان الديني اكثر من ايّ شيء آخر.

انهار الاتحاد السوفياتي عمليا، يوم انهيار جدار برلين في تشرين الثاني – نوفمبر 1989. مع انهيار جدار برلين كرّت السبحة وصولا الى الاتحاد السوفياتي نفسه في مطلع العام 1992 وقيام روسيا الاتحادية التي استطاعت ان تجد لنفسها، مؤقتا فقط، مكانا على خريطة العالم بعد ان اصبح فلاديمير بوتين رئيسا في العام 2000.

هناك من اتعظ من تجربة الاتحاد السوفياتي وهناك من لم يتّعظ. في مقدّم الذين لم يتعظوا النظام الايراني الذي يريد تكرار تجربة فاشلة عادت بالخراب على مواطني الاتحاد السوفياتي نفسه اوّلا. نشرت تلك التجربة البؤس في مختلف انحاء أوروبا الشرقية التي عادت دولها وشعوبها الى بناء نفسها بعد تخلّصها من نير الاستعمار السوفياتي غير المباشر. عادت المانيا الشرقية الى حضن المانيا، فيما انفصلت سلوفاكيا عن تشيكيا كي تؤكد ان في استطاعة بلدين، كانا بلدا واحدا العيش بسلام وامان عندما يكون الطلاق ودّيا.

المؤسف ان كلّ تجربة العلاقات العربية مع الاتحاد السوفياتي انتهت بكوارث. لم تستطع مصر استعادة أراضيها المحتلة الّا بعد تخلّص أنور السادات من عقدة الاتحاد السوفياتي الذي سعى دائما الى تكريس الجمود في الشرق الاوسط بعدما سهّل احتلال إسرائيل للأراضي العربية في حرب 1967. كان النظام السوري تلميذا نجيبا للاتحاد السوفياتي. فقد اعتبر حافظ الأسد ان استمرار حال اللاحرب واللاسلم في المنطقة الطريق الأقصر للمحافظة على نظامه القمعي مستخدما كلّ الشعارات التي تصلح لتبرير القمع. اكثر من ذلك، كرّر الأسد الاب، الذي تسلّح بتسليم الجولان لإسرائيل عندما كان وزيرا للدفاع في العام 1967، بهذه الورقة كي يضمن دخول جيشه الى لبنان بغية تكبيل منظمة التحرير الفلسطينية ومنعها من الاقدام على ايّ خطوة تصبّ في استعادة، حتّى ولو الحدّ الأدنى، من حقوق الشعب الفلسطيني.

لا حاجة طبعا الى سرد التجربة السوفياتية في اليمن الجنوبي وكيفية القضاء على مدينة عدن التي كان يمكن ان تكون من اكثر المدن العربية ازدهارا في المنطقة كلّها. لا حاجة بالطبع الى شرح طويل عن النظام الذي أقامه الاتحاد السوفياتي في اليمن الجنوبي والذي تكفّل القضاء على بلد كان يمتلك مستقبلا واعدا بعد استقلاله في العام 1967.

المؤسف اكثر من ذلك كلّه ان ايران تستعيد منذ نجاح ثورة الخميني على الشاه في العام 1979 تجربة الاتحاد السوفياتي من دون أي سعي الى الاستفادة من الأخطاء التي شابتها وادت الى نهايتها غير السعيدة. هناك تشابه كبير بين التجربتين في خطوطهما العريضة، علما انّه يفترض في ايران ان تتنبه الى ان الأسباب التي أدت الى انهيار الاتحاد السوفياتي، هي الأسباب نفسها التي لا يمكن الّا ان تؤدي الى انهيار النظام فيها.

لم يأت سقوط الاتحاد السوفياتي من فراغ. جاء سقوط الاتحاد السوفياتي بعد التورّط في حرب أفغانستان وبعد اكتشاف ميخائيل غورباتشوف لدى توليه موقع الأمين العام للحزب الشيوعي، وهو موقع في مستوى موقع "المرشد"، في ايران ان لا مستقبل للبلد في غياب اقتصاد قويّ. كان كافيا ادخال الولايات المتحدة الاتحاد السوفياتي في لعبة "حرب النجوم" كي يكتشف ميخائيل غورباتشوف ان لا قدرة لبلده على الدخول في مثل هذه اللعبة، لعبة سباق التسلّح، التي تبيّن لاحقا انّها ذات طابع وهمي.

يشبه الاتحاد السوفياتي ايران الحالية في انّه كان يعتمد مثلها على النفط والغاز. لم يستطع الاتحاد السوفياتي تطوير اقتصاده في ايّ وقت. لم يستطع صنع سيّارة صالحة. استعان بشركة "فيات" الايطالية لانتاج سيّارة شبه معقولة تحت تسمية "لادا".

بلغ الاتحاد السوفياتي كوبا وانغولا والجزائر واليمن الجنوبي، لكنه لم يبلغ قلب المواطن السوفياتي. كان سقوطه عظيما. رفع الكوبي واليمني شعارات "ثورة أكتوبر" وصور ماركس ولينين، فيما كان الروسي والأوكراني والجورجي يعرف ان هذه الشعارات لا تعني شيئا.

لن يفيد ايران رفع صور الخميني لا في لبنان ولا في سوريا ولا في العراق ولا في اليمن... ما دام المواطن الايراني يعرف جيّدا ان هذه الشعارات تظلّ شعارات وانّ ثورة الخميني مثل ثورة لينين لا تمتلك ما تقدّمه للمواطن.

المسألة مسألة وقت قبل ان نكتشف ان الصواريخ لا تصنع دولا ولا تصنع قوى إقليمية او دولية. في نهاية المطاف، فشلت الثورة الايرانية في تقديم أي نموذج صالح لاهل المنطقة. صدّر الاتحاد السوفياتي العقيدة الشيوعية فارتدت عليه. تصدّر ايران الغرائز المذهبية التي لا يمكن الّا ان ترتدّ عليها يوما. انّه الاقتصاد مرّة أخرى. من يفشل اقتصاديا لا يمكن ان ينجح سياسيا ولا ان يبني دولة. يستطيع بناء نظام امني او دولة امنية لا اكثر. منذ متى كان النظام الأمني او الدولة الامنية قاعدة لبناء دولة لديها نموذج ما تصدّره للعالم؟