أحمد بن فريد يكتب :
منذ متى كان النضال من أجل الوطن بيعا للوهم* ؟!!
بعث لي أحد الاصدقاء مداخلة الرئيس / علي ناصر محمد في مؤتمر فالداي العالمي الذي يقام سنويا في مدينة موسكو الروسية , والتي جاءت في خمس صفحات تقريبا . قرأتها بشكل اولي سريع متيقنا أن رؤية الحل المقدمة لا يمكن لها ان تتجاوز ما كان يطرحه ابو جمال في كل مرة وفقا لمخرجات مؤتمر القاهرة الذي ترأسه هو شخصيا , والتي تتحدث عن اقليمين بفترة زمنية محددة ما بين الشمال والجنوب يعقبها استفتاء في الجنوب حول الاستمرار في الوحدة ام الاستقلال .
لكنني تفاجأت أن خيار الاستفتاء قد اسقط من رؤية الرئيس ناصر الجديدة , واكتفى الرجل بالحديث عن رؤية أخرى تتحدث في فقرتها الرابعة حرفيا عن : البدء في حوار بين كافة المكونات السياسية والاجتماعية للتوافق على شكل الدولة الفيدرالية وقيام الدولة الاتحادية من اقليمين ! وحينها تساءلت باستغراب شديد , مالذي دفع الرجل ل " التنازل " عن مخرج مؤتمر القاهرة بهذا الشكل الغير منطقي ؟! الأمر الذي يدفعني الى كتابة تحليل اوسع عن مجمل الرؤية المقدمة كنوع من ممارسة النقد والحوار عبر الكلمات كحق مشروع .
غير أنني " هنا " سوف اتناول ما تطرق له الصديق فتحي بن لزرق في " منشورالاطراء " الذي علق فيه على هذه الرؤية , والذي قال فيه انه قد التقى ابى جمال في اواخر نوفمبر 2011 م في القاهرة في شقته المطلة على النيل بعد أيام على عقد مؤتمر القاهرة ! وقال انه اقترب منه وسأله : لماذا تقف يا سيادة الرئيس ضد تطلعات شعب الجنوب ؟ فسألني – اي الرئيس ناصر - : أي تطلعات ؟ .. قلت له : لماذا لا تكن مثل القيادات الأخرى وتعلن دعمك للانفصال ؟ .. ضحك ناصر يومها وقال : وهل تريدني أن اكذب على الناس وابيعها الوهم ؟!! قلت له – والكلام للصديق فتحي : لن تبيع للناس وهما ونظام صالح يترنح وسيسقط وسينال الجنوب استقلاله وسننفصل .... قال : انتظر وسترى !! ثم يمضي فتحي في كيل المديح والاطراء على النظرة " الثاقبة " للرئيس ناصر .. لأنها كما يقول فتحي قد اثبتت سلامتها !
على اية حال .. يبدو أننا اليوم امام مفهوم جديد يحتاج الى تفكيك وهدم قبل ان يتم تسويقه ثم يعتمد في عقولنا كحقيقة يراد لها فعلا أن تكون كذلك .. هذا المفهوم يقوم على اساس مهزوم ينادي صاحب الحق ان يتخلى عن حقه لأن السعي خلفه هو نوعا من الجري خلف " الوهم " .. وفي الحقيقة انه لو سلمنا فعليا بهذا المفهوم منذ 7 / 7 / 1994 م لكان على شعب الجنوب ان يستسلم وأن يستكين لمصيره السيء الذي حددته آلة الحرب السنحانية عليه حينما اجتاحت الجنوب , وكان على اي شعب له قضية وطنية ايضا الا يطالب بها بأي شكل من الأشكال .. فلا كان يجب على شعب جنوب افريقيا مثلا ان يناضل من اجل حريته وان يستخرج من بين جوراحه هامة عالمية كنيلسون منديلا .. لأن العالم حينها كان مع نظام " الفصل العنصري " وكان يصف نضال الافارقة المشروع ب " العنف والارهاب " .. ووفقا لمفهوم : نحن لا نبيع الوهم لشعبنا !! كان على منديلا ورفاقه ان يخرجوا الى شعبهم بخطاب يطالبهم مثلا بقبول النظام العنصري والتعايش معه اذا ما ادخل على قوانينة الجائرة بعض التحسينات التي تتعلق بالسماح للسود ان يركبوا ذات القطارات مع البيض مثلا , لأن مادون ذلك هو نوعا من " بيع الوهم " كما يقول الرئيس ناصر ويؤيده عليه بن لزرق ! وكان على الشعب الهندي ايضا الا يجري وراء غاندي لأنه كان يبيعه وهما عطفا على ان الاحتلال كانت تمثله امبراطورية لا تغيب عن اراضيها الشمس !
ووفقا لهذا المفهوم ايضا .. كان على الشعب الفلسطيني وجميع قياداته ان تتقبل " الأمر الواقع " على اعتبار ان " سطوة اسرائيل " في العالم لا تقاوم , وان نفوذها عمليا هو المتحكم الفعلي بالسياسة الخارجية الأمريكية .. ومن ثم فلا يجب عليهم ان يناضلوا من اجل حقهم الوطني المشروع , لأن النضال في هذه الحالة ووفقا لهذا المفهوم هو نوعا من انواع " بيع الوهم " .. أي ان جميع القيادات الفلسطينية بما فيها الشهيد / ياسر عرفات كانت تبيع الوهم للشعب الفلسطيني طوال العقود الماضية ولا زالت !.. ولا اعلم في الحقيقة لماذا لم ينصح الرئيس ناصر نظيره الفلسطيني ياسر عرفات بفحوى هذا المفهوم حينما كان يزور الأخير عدن عندما كانت عاصمة دولة عربية مستقلة ؟!
هذا المفوم ببساطة يفترض انه اذا ما " سطى " لصوص على حقك الخاص – تحت اي ذريعة كانت – واخذوه في وضح النهار بقوة غاشمة , فعليك ان الا تبيع الوهم لنفسك او لاولادك باسترداده ! .. وعليك ان تصارح ابنائك بأن لديك مشروع تسوية مع " اللصوص " مفادها أن تتنازل عن نسبة ( 80 % ) من الحق المنهوب لصالح اللصوص , لأن ما عدا ذلك هو بيعا للوهم !! واذا ما اتى احد اولادك محتجا وقائلا : ان اخي قد دفع حياته دفاعا عن حقنا فلماذا يا أبي نخذله ونتنازل عن حقنا ودمه قال له الأب المؤمن بمفهوم عدم بيع الوهم : كف عن بيع الوهم لنفسك يابني واقبل بهذه التسوية مع اللصوص !
وحتى وفقا لهذا المفهوم المستسلم, دعونا نتساءل على اساسها ووفقا للحظة الزمنية التي جرى فيها الحوار مابين صاحب المنشور والرئيس – أواخر نوفمبر 2011 م .. اي بعد مخرجات مؤتمر القاهرة الذي تبنى تسوية سياسية تقول باعتماد فيدرالية من اقليمين ما بين الشمال والجنوب لفترة زمنية محددة يعقبها عملية استفتاء لشعب الجنوب ..ألخ , الم تكن هذه الرؤية المعتمدة تمثل حلا منطقيا للرئيس ناصر من وجهة نظره ؟ .. ألم تكن حينها لا تعتبر بيعا للوهم ؟ فلماذا اذا اتى اليوم في موسكو ليتنازل عنها ؟ !! هل اصبحت فجأة مجرد بيع للوهم هي ايضا ؟ .. وان كانت كذلك فمن هو الذي كان يبيع الوهم ؟!! .. ثم من يضمن وفقا لهذا التراجع المخيف المعتمد على مفهوم " بيع الوهم " الا يتحول غدا مشروع حل الفيدرالية من اقليمين فقط بدون استفتاء الى نوعا من بيع الوهم ايضا على طريق التراجع الى الخلف باعتماد سلطة مركزية لصنعاء على الجنوب كما انتجت تماما حرب 1994 م !! ... ترى من يبيع الوهم هنا قارئنا الكريم ؟! ويبقى الناقض الأكبر لمفهوم " كن واقعيا " .. أن جنوب اليوم 2018 افضل بكثير من جنوب 2011 من حيث هيمنة الجنوبيون على ارضهم , وان كانت هنالك بعض " الشوائب " فهي تعود لنا نحن فقط وليست لغيرنا.
على اية حال .. في تقديري ان القضية لدى ابى جمال ليست كذلك .. لأنه ينطلق من مفاهيم وقناعات أخرى لا علاقة لها " نهائيا " بمفاهيم سياسية " تبريرية " كمفهوم بيع الوهم .. وهي المسألة التي سوف اتطرق لها في تحليلي القادم للورقة المقدمة الى مؤتمر فالداي بموسكو ..وختماما ويشهد الله على ما اقول : انه لو كان اخي ابن امي وابي من يتبنى مثل هذه الحلول المنقوصة لما ترددت لحظة واحدة في نقده كا كتبت اعلاه , لأن الوطن فوق الجميع وتبقى العلاقات الشخصية محل اعتبار ايضا ولها مكانتها المحفوظة , وعشمي ان الرئيس ناصر يتفهم مثل هذا الرأي.