سمير عطا الله يكتب:

السادة الأكاديميون

بعض الأقوال تذهب مأثورة إلى الأبد لتصبح عناوين مراحل وأحداث وحروب وسلام. «صراع الحضارات» جملة نقلها صمويل هنتنغتون من أكاديمي آخر هو برنارد لويس، وجعلها عنواناً لواحد من سبعة عشر مؤلفاً في الفكر السياسي. نحن لا ننتبه دائماً إلى أن هذا العالم، هو في حالات كثيرة عالم المفكرين. لقد انتقلنا من قرن إلى آخر ولا تزال مقاييسنا ومعاييرنا هي تلك النظريات التي طرحها هنري كيسنجر وزبغنيو بريجنسكي وصمويل هنتنغتون. ثلاثة أسماء بينها ألماني وبولندي المولد. الثلاثة حملوا اسم أهم جامعات أميركا، هارفارد، طلاباً أو أساتذة أو الاثنين.

اثنان منهم، كيسنجر وهنتنغتون، أثارا جدلاً عالمياً، ولا يزال قائماً. بريجنسكي كان مستشاراً غير أساسي للرئيس ليندون جونسون، وأصبح مستشار الأمن القومي لدى جيمي كارتر، لذلك، لم يرتبط اسمه، مثل كيسنجر، بحروب آسيا والشرق الأوسط. بعكسه، ارتبط اسم بريجنسكي بمبادرات السلام التي طرحها كارتر حول العالم.

كان البولندي هو الأقل إثارة للجدل بين الثلاثة، وبالتالي، الأقل لمعاناً في الإعلام. وظل عنوان «صراع الحضارات» الأكثر شهرة حتى اللحظة. ليس بالمعنى الدموي، بل بكل المعاني. وقد فسره المعلقون العرب على أنه يعني الإسلام والغرب، لكن القراءة كانت سريعة وخاطفة. الأكاديميون الجديون لا يقرأون هكذا، إلا إذا كانوا مدعوين إلى العشاء.

تتذكر صراع الحضارات اليوم عندما تجد أن الصين رفعت الضرائب على 132 سلعة أميركية رداً على حرب ترمب التجارية. أو عندما ترى البحر المتوسط فائضاً باللاجئين الأفارقة. أو عندما ترى الأرض السورية مخضبة بجميع أنواع الدماء. أو عندما تشاهد مجازر الروهينغا المريعة في ميانمار.

الأكاديميون غالباً يضعون لنا المطالعات. تلك المقارنة التي لا تنتهي بين عناصر التاريخ ومكونات الحاضر. وما زال كيسنجر يضع المطولات المملة، غارفاً من معادلات تاريخية لم يعد لها معنى اليوم. ومعظم مؤلفاته عبارة عن تقارير حكومية عادية وضعها مساعدوه والباحثون لديه. لكن لا يمكن لأحد أن يلغي دوره في التاريخ، أو أنه كان وزير الخارجية الذي حمل رئيسه ريتشارد نيكسون إلى الصين في ذروة النزاع الآيديولوجي معها.

لا يصغي الكثيرون من الزعماء لرجال الفكر والأكاديميا. ليس هذا في التقليد البريطاني مثلاً، حيث السياسي هو أيضاً المفكر الكبير: بالمرستون، وديزرائيلي، وتشرشل. أو التقليد الألماني أو الفرنسي. وقد رفع كيندي هذا التقليد إلى ذروته، عندما ملأ البيت الأبيض بالمستشارين، ولم يعش ما يكفي ليرى نتائج التجربة.

* نقلاً عن "الشرق الأوسط"