فاروق يوسف يكتب:

حين تخذل المرجعية الدينية أتباعها

 “المجرب لا يُجرب” تلك هي الفتوى التي نطقت بها مرجعية النجف، بعد أن طلب منها أتباعها ومريدوها الفصل في ما هم فيه من حيرة في ما يتعلق بالانتخابات التي سيشهدها العراق الشهر القادم.

فالمرجعية الدينية رغم أنها تظهر عزوفها عن الدخول في العملية السياسية، كانت حاضرة دائما حين يحتاج سياسيو تلك العملية إلى دعم شعبي.

مواقف كثيرة اتخذتها المرجعية هي التي صنعت رصيد النظام القائم في العراق على المستوى الشعبي. دعت المرجعية إلى عدم مقاومة الاحتلال، كما أنها حثّت جماهيرها على التصويت على الدستور الجديد وبعده الانتخابات التشريعية. كما أن الحرب الأهلية ما كان لها أن تقع لولا غطاء المرجعية. يومها حرض علي السيستاني أتباعه على الانتقام للإماميْن اللذين تم تفجير ضريحيهما في سامراء.

في وقت لاحق وبالضبط عام 2014 تم تجميع الميليشيات الشيعية التي تحوم حولها شبهات القتل في الحرب الأهلية في تنظيم مسلح موحد، أطلقت عليه تسمية “الحشد الشعبي” بناء على فتوى الجهاد الكفائي التي أطلقها السيستاني نفسه. غير أن المرجعية كانت صامتة دائما في مواجهة الفساد الذي اخترق الدولة العراقية طولا وعرضا. ولقد حظي الكثير من الفاسدين وفي مقدمتهم رائد الفساد نوري المالكي بلقاء المرجع الشيعي الأعلى علي السيستاني غير مرة.

كانت اللعبة واضحة. لقد تم استعمال المرجعية التي لا تؤمن بها الأحزاب الدينية في الأوقات التي كانت تلك الأحزاب في حاجة إلى دعمها، مقابل استمرارها في نهب أموال الخمس التي تتكدس بين يديها. سكت الفاسدون عن فساد المرجعية، مقابل أن تسكت تلك المرجعية عن فسادهم. علاقة تحكمها المصالح. ليس هناك طرف بريء. ليس هناك طرف حسن النية. عرفت المرجعية كيف تحمي مصالحها حين صارت مظلة للفساد الذي نخر العراق باسم الدفاع عن المذهب.

كان المذهب مسوّغا فقد الفقراء من خلاله حقهم في المطالبة بحقوقهم باعتبارهم مواطنين. كانوا بشكل أو بآخر من رعايا المرجعية وهو ما يوجب عليهم اتباع فتاواها، حتى وإن كانت تلك الفتاوى تحط من شأنهم. لذلك لم يكن مفاجئا أن تكون تلك الفتاوى عنوانا للتضليل والتجهيل.

اليوم بعد أن تمكنت آلة الفساد من العمل بسلاسة وإتقان في العراق تنطق المرجعية بجملة غامضة هي “المجرب لا يُجرب”. ما الذي تعنيه تلك الجملة العاجزة عن قول الحقيقة بالرغم من أنها تتخذ شكل الحكمة بطريقة قابلة للتأويل؟ أما كان بإمكان المرجعية أن تستفيض بالقول فتشير إلى الفاسدين وما فعلوه بالعراق، أم أنها تخشى أن تقع دررها على الأرض غير الطاهرة؟

لن تفهم العامة فتوى المرجعية. فهل المجرّب المقصود هم الأشخاص أم الأحزاب والكتل السياسية؟ هل المجرّب هو كل مَن تبوأ منصبا في الحكومات الغابرة، فيكون هادي العامري مثلا مشمولا كونه قد استلم مناصب عديدة في الحكومات السابقة، أم أن ذلك يقتصر على الوجبة الأخيرة من الفاسدين؟

أعتقد أن المرجعية فعلت الأسوأ في تاريخها حين دفعت بأتباعها إلى انتخاب مرشحي الحشد الشعبي أعضاء في مجلس النواب، ثم الدفع بهم للاستيلاء على السلطة. ذلك ما يمكن توقعه. فالمرجعية التي اخترعت الحشد الشعبي تنفيذا لأوامر إيرانية لا بد أن تكمل دورها من خلال تهيئة الشعب للقبول بفكرة أن يتولى زعماء الحشد السلطة من خلال إضفاء شيء من الشرعية على وجودهم المستحدث داخل التركيبة السياسية الحاكمة.

المرجعية التي لعبت دورا خطيرا في تطبيع أحوال الدولة الفاسدة بذريعة الدفاع عن المذهب، لا يمكن أن تتراجع عن موقفها المبدئي الذي يمكن تلخيصه بجملة “شيعي فاسد يحكم أفضل من سني نزيه يُشك في ولائه لآل البيت”، وهو موقف تضفي المرجعية على مكنونه الطائفي صبغة الحق التاريخي.

وإذا ما كانت المرجعية قد حثت جمهورها على عدم انتخاب الأشخاص الذين امتلأت خزائنهم بالأموال المنهوبة من ثروة الشعب العراقي، فإنها في الوقت نفسه دعت ذلك الجمهور إلى أن يعطي أصواته لأشخاص جدد قد يكونون أشد فسادا من سابقيهم، ذلك لأنه من غير المسموح به لغير الفاسدين الدخول إلى السباق الانتخابي في العراق

مرة أخرى تثبت مرجعية النجف تمسكها بدورها المشبوه في تضليل الفقراء والبسطاء الذين تدفعهم مشاعرهم الدينية إلى وضعها في المكان الخطأ.