رشيد الخيُّون يكتب:
أصدقائي (المتطرفون).. اختاروا التَّنوير نهجاً
زاد برنامج «الجزيرة»، المسمى «ما خفي أعظم»، يقيني يقيناً عن أصدقائي الأربعة: تركي الدِّخيل ومشاري الذَّايدي ومنصور النَّقيدان وعبد الله بن بجاد العُتيبي، بأن تبنيهم التنوير لم يكن نزوة ولا مصلحة غير إزاحة القهر الدِّيني، لأنهم عايشوه، كان الأربعة شباناً، لم يتجاوزوا العشرينيات، عندما غرروا بأجواء الصَّحوة، ومثلهم الآلاف، يوم كان جهيمان (أُعدم 1980) يمثل حالة ثورية، والثورة الإيرانية والحرب الأفغانية الدينية، جعلت الإسلام السياسي يشرئب إلى السُّلطة، بحماس الصحوة وتصدير الثورة. بل شخصيات يسارية، في لحظة، انحازت إلى الخمينية، وأُعجبت بحركة جهيمان التي أثمرت «القاعدة» و«النصرة» و«داعش».
كيف يكون الأمر عليه، لو أن برنامج الدَّخيل «إضاءات» (2013-2004)، صار منبراً للسلفية الجهادية، يبث بيانات بن لادن (قُتل 2011)، ويبشر بالعمليات الإرهابية، مثلما فعلت القناة التي تبث برنامج «ما خفي أعظم»؟! أو يتحول «مركز المسبار للدراسات والبحوث» وكتابه الشَّهري إلى منصة لصاحب فتوى «التفجير عبر الجماعة»! ماذا يكون الموقف مِن برنامج «صناعة الموت» لو تغنى بمقال مؤسس «الإخوان»، «فن القتل» (1936)؟! ولحظي برنامج الذَّايدي «مرايا» بمنزلة لدى «اتحاد علماء المسلمين العالمي» لو كان لصالح جهة متطرفة!
لم تتخلص أوروبا مِن الحروب الدِّينية، ورجال الدِّين الغاشمين، وتكريس التَّعايش إلا برجال دين كانوا شديدي التَّعصب، بعدها انتصروا بكتاباتهم للتسامح والانفتاح، ومنهم مَن فقد حياته ضحية موقفه. ومَن يريد التعرف على هؤلاء عليه بكتاب «تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح».
ما بُث في البرنامج المذكور ليس أسراراً يخفيها الأربعة، بل اعتمد على ما أفاضوا به عن تجاربهم، عندما كانت وما زالت الجماعات المتطرفة تتصيد الشَّباب، فالدِّخيل كتب «كنت في أفغانستان» وضَمَّن تجربته في سني المراهقة، وبعدها ذهب بمهمة صحفية للقاء أحمد شاه مسعود (اغتيل 2001)، عندما انحاز الأخير ضد «طالبان». أقول: ألم يذهب ثوريون أجانب وعرب للقاء ببن لادن؟! ماذا يكون الحال لو ظل الذَّايدي عقائدياً، وشيد هو ورفيقاه النقيدان وابن بجاد مدرسةً لتجنيد الشباب في «القاعدة» و«النصرة»، أو أن يكونا إخوانيين مخلصين لبيعة المرشد؟! وهذا هو التصرف الوحيد الذي يرضي القناة والقائمين عليها.
الحال نفسه، كيف ننظر لمساهمات عبد الكريم سروش في الفكر العقلي، وماذا لو ظل أحد حُراس فكرة «ولاية الفقيه المطلقة»؟! وشتان بين انحياز هادي العلوي (ت 1998) للفكر العقلي وانتسابه لـ«حزب التحرير» في شبابه المبكر. ضياء الشكرجي مال للفكر الحر بعد تجربة ربع قرن مأخوذاً بعقيدة حزبية إسلامية، فلو استمر بتجربته تلك لوجدناه واقفاً بعمامته على منبر قناة حزب الدَّعوة (آفاق) مُكفراً ومحرضاً؟! كذلك الأمر نفسه مع محمد شبستري، وماجد الغرباوي وغيرهم، ممِن خلعوا عباءة الكهنوت وعنوانها «نيابة الإمام» متوجهين إلى الفكر الإنساني الرَّحب.
أكتب عن الأربعة باعتزاز، لأنهم خرقوا جدار الطائفية، وغدوا مدافعين صدوقين عن التنوير، وساهموا، وبقية النشطاء، في التحولات الجارية ببلادهم، ذلك بانتصارهم للخلاص مِن مؤثرات الصحوة الكارثية، فأوروبا تحررت مِن القهر الديني بالمثقف والملك. نعم يُعير ويُخوف هؤلاء لتحولهم الراقي، بسلب هجير التطرف عنهم! ولمحمد مهدي الجواهري (ت1997): «بماذا يخوِّفني الأرْذَلُونَ/ وممَّ تخافُ صِلالُ الفلا؟!/ أيُسْلبُ عنها نعيمُ الهجيرِ/ونفحُ الرِّمالِ وبذْخُ العرا»! (المقصورة 1947).
ليس أكثر صراحة من النقيدان، عن تلك الفترة، بعد أن غدا منافحاً قوياً في مواجهة الإسلام السياسي. وكان بحث ابن بجاد «السرورية» (كتاب المسبار)، وما لحقه من دراسات، ومساهمته المهمة في برنامج «صناعة الموت»، خريطة طريق لمواجهة الفكر التكفيري، وتعرية رموزه المختبئين وراء الجمعيات الخيرية، والجماعات الدعوية. شتان بين المبشر بالتطرف والكاشف عن خطورة هذا الفكر.
كان الأربعة من الشجاعة أن أماطوا اللثام عن ماضٍ جعلوه خلفهم قاعدة صلدة إلى رحاب التسامح والإصلاح والتقدم الإنساني، فالآية تقول: «وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَلَكِنْ مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ» (الأحزاب:5). بينما توجيه الشّيخ الإخواني يوسف القرضاوي، على الهواء للتفجير بأمر الجماعة، هو المقصود بـ«مَا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ»، أجاب على سؤال عن تفجير الفرد لنفسه في المدنيين: «علشان يفجر نفسه، هذا لا بد أن الجماعة هي التي ترى أنها في حاجة لهذا الأمر، إذا الجماعة رأت أن يُفجر نفسه في الآخرين، ويكون هذا مطلوباً» (قناة الجزيرة)، في أكثر مِن مئة كتاب شهري تصدى مركز المسبار ضد فتاوى القتل باسم الدين، فيا تُرى مَن هو المتطرف؟!
لم تتخلص أوروبا مِن الحروب الدِّينية، ورجال الدِّين الغاشمين، وتكريس التَّعايش إلا برجال دين كانوا شديدي التَّعصب، بعدها انتصروا بكتاباتهم للتسامح والانفتاح، ومنهم مَن فقد حياته ضحية موقفه. ومَن يريد التعرف على هؤلاء عليه بكتاب «تاريخ التَّسامح في عصر الإصلاح».
أقول: كان الأربعة، وغيرهم الكثير، ممَن عُيروا بسلب الهجير، أكدوا بانحيازهم للتَّنوير والاعتدال وبأقصى ما يملكونه من قوة، بأن أسطورة «طائر الفينيق» حقيقة! أما قضية المال، فلو كان استبدال الاعتدال بالتشدد مِن أجل المال، فليس أغدق بالمال من مؤسسات إعلام التَّطرف! وللأولين: «رَمَتْنِي بدائها وانسلَّت» (ابن عبد ربّه، العقد الفريد).
نقلا عن "الاتحاد"