سمير عطا الله يكتب:

مفتاح السرد

أيهما أكثر أهمية في الرواية؛ بدايتها، أي مفتاحها، أم الخاتمة بعد سرد طويل؟ معلم السرد المثير، غابرييل غارسيا ماركيز، كان يركز على «المفتاح» كما يفعل عازفو الموسيقى. روايته القصيرة «مدونة موت معلن مسبقاً»، تروي قصة ابن مهاجر لبناني، يدعى «سانتياغو نصار»، والده «إبراهيم»، المزارع الميسور الذي توفي تاركاً أعمال المزرعة لبكره. ويبدو أن «سانتياغو» كان على قسط من النجاح؛ كذلك بين نساء البلدة. ذات يوم يُعقد عرس فتاة جميلة، لكن عريسها يعيدها إلى أهلها في الليلة نفسها عندما يكتشف أنها ثيب.
تنهال عليها أمها ضرباً، ويقرر شقيقاها بابلو وباولو فيكاريو قتل المعتدي على شرف الشقيقة أنجيلا. يذهبان إلى سوق اللحامين حيث يعملان، ويبدآن في سنّ السكاكين أمام رفاق المسلخ، معلنين أن الهدف هو قتل «سانتياغو» عندما يخرج من منزله.
تنتشر الإشاعة. أحد الجزارين يبلغ ضابط الشرطة وهو نصف مصدق. والضابط يتلقى البلاغ بغير اقتناع. والبلدة تتلقى الخبر بنصف اهتمام، فقد كان رجال كثيرون يعتقدون أن «سانتياغو» قد مس بأعراضهم، ولذا، لم يعودوا واثقين من أنهم يريدون نجاته أو مقتله. إن ثراءه لكثير على البلدة في أي حال.
كنت قد ذكرت في الماضي أن ماركيز، الصحافي السابق، بنى الرواية على حادثة حقيقية وقعت في قرية «سكريه»، وأنه أبلغ الزميل شوقي الريس في مقابلة مطولة أن «سانتياغو» الحقيقي كان إيطالياً، وليس لبنانياً، من أجل أن يأخذ حريته التامة في تلوين السرد، وإبعاد الأسماء المركبة عن هوياتها الحقيقية.
لا أحد يبلغ «سانتياغو» بما سمع، أو يحاول أن يحذره. حتى ابنة الطباخة التي نشأت في المنزل مع أمها، لا تخبره عن الشائعة التي ملأت البلدة. كعادته، يماثل ماركيز الدراما الصغيرة بالتراجيديا الإغريقية. لكنه يجيد تحريك أشخاصه بمهارة أكثر. حتى صديق «سانتياغو» الوحيد هرع إلى منزله ليخبره بما سمع، ولما لم يجده، ترك له عند الباب ورقة كتب عليها التحذير. يصل «سانتياغو» إلى منزله هارباً بعدما أبلغه أحدهم بما يحدث. فالأخوان «فيكاريو» يطاردانه. وظنت والدته أنه أصبح داخل المنزل، فأغلقت الباب لكي لا يقتحمه الشقيقان. وبذلك حتمت موته دون أن تدري... يبدأ ماركيز الرواية بقتل بطله: «في اليوم الذي كانا ينويان فيه قتله». هكذا أيضاً تبدأ «مائة عام من العزلة» و«خريف البطريرك»؛ تهديدات بالقتل وكواسر. ودائماً الصحافي يعود من ماضيه يملأ النص غرابة وتفاصيل.