فاروق يوسف يكتب:
ألا يزال التنوير ممكنا؟
لا يمكن القبول دائما بالمنطق الذي يقول "إن الوقت بات متأخرا". فالتحولات الإيجابية ممكنة إذا ما وضعت الحقائق الجوهرية في اماكنها الصحيحة.
ما حدث في العالم العربي عبر الخمسين سنة الماضية يرتبط بشكل أو بآخر بما يمكن أن أسميه بـ"حملات التعبئة المضللة" وهي محاولات كان الهدف منها تغليب الشعارات الثورية على الحقائق الجوهرية من أجل تعطيل الإرادة الإنسانية أو على الأقل الانحراف بها عن مسارها.
لقد استعملت الأحزاب والجماعات العقائدية الجماهير في تنفيذ مشاريعها العبثية وصولا إلى تحويل تلك الجماهير إلى مجرد حشود من الممثلين على مسرح عرائس كبير. دمى تم تنميطها بطريقة تذكر بعمليات الإنتاج الصناعي الواسع للسيارات والملابس والأدوات المنزلية وسواها من السلع.
في ظل ذلك التنميط غابت عن الفضاء العربي شخصية الإنسان الفرد الخلاق والمبتكر والمتجدد حين حولت بعض الأنظمة السياسية العربية الإنسان إلى سلعة، يمكن أن تستعمل أحيانا لمرة واحدة ومن ثم يتم الاستغناء عنها ويُلقى بها في النفايات.
كان ذلك مصيرا مؤسفا لكنها الحقيقة التي قادتنا إلى ما نحن فيه اليوم.
ما يحدث اليوم من استلاب، استفادت وتستفيد منه الجماعات الدينية المتشددة وفي مقدمتها جماعة الاخوان المسلمين وحزب الله اللبناني وحزب الدعوة في العراق وما تفرع عنها من ميليشيات وجماعات ظلامية مسلحة كتنظيم القاعدة وعصائب أهل الحق قد تم التمهيد له حين احتكرت الانظمة السياسية الوطنية التفكير ووضعت البشر في قوالب معدة سلفا وصادرت الحريات الشخصية بل وحولت المواطن، كل مواطن إلى شرطي يراقب نفسه والآخرين.
كانت الرقابة الذاتية شرط مواطنة صالحة ومحاولة لتفادي الخطأ الذي لا يحدده قانون ثابت.
وهو ما قتل روح المبادرة الخلاقة.
فالمبادرة المقبولة التي تضمن السلامة هي التي يحتاجها ويفرضها ويقتات عليها النظام السياسي. وما على الأفراد سوى أن يطوعوا ويكيفوا أنفسهم ليكونوا مناسبين لها في الوقت الذي يراه النظام مناسبا.
في ظل كل ذلك التقييد الذي رافقه شعور عميق بالخوف والذعر والهلع كان لابد أن يتعطل العقل ليسمح لحملات التعبئة المضللة في أن تقوم بمهمتها. وما يمارسه مزورو الدين اليوم من حيل دعائية يُراد من خلالها نشر الخرافات والمرويات التي لا تنسجم مع التاريخ وتعد تزويرا فاضحا لحقائق ذلك التاريخ كان عسكريو القومية وعصابيو الفكر الشيوعي قد مارسوه من قبل وإن ظهر بأشكال مختلفة، غلب عليها الطابع المديني.
لقد اجتهدت الأنظمة العقائدية ذات المنحى السياسي اليساري في الزج بالمجتمعات التي قُدر لها أن تقع في قبضتها في مسيرات نضالية، لم يكن أحد يملك القدرة على التكهن بنهايتها.
تلك المسيرات هي نفسها المسيرات التي تحدث الخميني عن ضرورتها من أجل أن تستمر الجمهورية الإسلامية.
الجنائزية التي تظهر في مسيرات الحزن الخمينية كانت تعبر عن نفسها سابقا من خلال هستيريا الفرح الوطني والقومي الزائف.
فهل يدعو ذلك إلى اليأس من إمكانية أن تنتبه الجماهير إلى ما ينطوي عليه سلوكها العبثي من خطر على مصيرها؟
ليس من العقل أن يُرهن المصير بإرادة جمعية لا يمكن التحقق من وجودها. فالمصير هو صناعة أفراد هم أبناء زمن لم يحن موعده بعد. وهو ما يعني أن النبوءة بولادة عصر جديد لا تنتمي إلى الخيال بقدر انتمائها إلى واقع يصنعه أفراد بعينهم.
لذلك فإن الحرب التي يخوضها بعض العرب ضد الظلامية والظلاميين لا بد أن تؤتي أكلها بعد حين. وكما أثبتت تجربة دولة الامارات العربية المتحدة فإن التنوير لا يزال ممكنا، بل أن هناك حاجة مجتمعية إليه. وهو ما يفضح زيف الادعاءات التي تتخذ من التراث والعادات والتقاليد ذريعة لمناهضة محاولات التحديث ومواكبة العصر.
لقد أثبتت تلك التجربة أن التنوير والانسجام مع روح العصر لا يتعارضان مع معايير الأصالة ومقوماتها بل يسندانها ويقويانها بما يهبها معاني جديدة.