عشر سنوات مرت لملم خلالها الأشقاء الصوماليون جراحهم
الحكمة صومالية
في ذات يوم من شهر أكتوبر من العام 2007م، كنت في ضيافة عضو مجلس الرئاسة السابق، الأستاذ سالم صالح محمد، في منزله بقلب مدينة خورمكسر بعدن. كان حديثي مع أبي صلاح يدور يومها حول اللجنة التي أنشأها المخلوع صالح وأوكل رئاستها للأستاذ سالم، والتي حملت أطول اسم في تاريخ اللجان اليمنية على كثرتها، وهو اسم "لجنة متابعة وتقييم الظواهر الإجتماعية السلبية التي تؤثر على السلم الإجتماعي والوحدة الوطنية والتنمية".
كلام كثير قاله لي الأستاذ سالم، وهو يقدم لي قراءته للوضع حينها، محذراً من خطورة ما يعتمل في البلاد، وما هي مقبلة عليه، وختم ذلك بأن قص علي قصة حدثت مع قائد حراسته، عندما طلب من أحد اللاجئين الصومال أن يغسل له سيارته.
قال: طلب قائد حراستي من لاجئ صومالي أن يغسل له سيارته، ففعل الصومالي، وعندما أكمل عمله اعتذر عن قبول أجرته. ظن صاحبي أن اللاجئ الصومالي يريد أكثر فزاد في المبلغ قليلاً، فنظر إليه الصومالي نظرة ذات مغزى وقال: إذهب يا صديقي يبدو أنك نسيتني، أنا (...) زميلك في الأكاديمية العسكرية في روسيا قبل 20 عاماً، لا تستغرب من حالي فقد كنت ضابطاً كبيراً في الجيش الصومالي لكن الحرب فعلت بنا ما فعلت وها أنا أمسح سيارتك.
كان أبو صلاح يحكي هذا والدمع يكاد يفر من عينيه. وأضاف متسائلاً: "تعرف ماذا نصح الصومالي صاحبي؟"، وقبل أن أسأله أكمل، قال له: إعلم أنكم في نعمة، وإن أردت نصيحتي فحافظوا على بلادكم، حافظوا على بلادكم، حتى لا تكون أنت في نفس مهنتي هذه في بلد آخر.
بعد فترة وجيزة من حديثي مع العم سالم، تشرفت بإجراء حوار مع الرئيس الصومالي الشاب، شيخ شريف شيخ أحمد، عند زيارته لعدن. وفي نفس الفترة، جمعني لقاء بوزير الخارجية الصومالي، عبد الله شيخ إسماعيل، ودار بيننا حديث طويل عن مأساة الشعب الصومالي، وكيف أن كثيراً من الوزراء والمسؤولين الصومال باتوا لاجئين في معسكر خرز في حياة بائسة ومهينة، وهذا ما رأيته بعيني. في حديثي إلى الرئيس الصومالي الشاب حينها، والقادم إلى الحكم عبر حركة المحاكم الإسلامية التي أسسها هو، لمست منه حرص كل القوى الصومالية على تجاوز الواقع المأساوي الذي كانت تمر به الصومال، كما لمست فيه الإحساس بالمرارة لما تسببت به الحرب من شتات ودمار للشعب الصومالي ومقدراته. يومها بدا الرئيس الشاب المثقف والهادئ جداً واثقاً بأن شعبه سيتجاوز محنته بحكمة وإرادة.
في اليومين الماضيين فقط، وأنا أتابع تلك الصورة المبهرة لنتائج الإنتخابات الصومالية، والتبادل السلمي للسلطة بين الرئيسين السلف والخلف، أدركت أن الحكمة صومالية، وأن العقلية الهمجية بامتياز هي العقلية اليمنية. فمنذ العام 2007م، بدأت مؤشرات الصوملة تظهر في اليمن، يومها كان بإمكان الرئيس الذي لم يكن مخلوعاً بعد أن يتمتع بالحكمة، وأن يستجيب لإرادة الشعب في الجنوب، وأن يستمع لصوته ويمنحه حقه في تقرير مصيره طالما كان هذا الشعب مصراً على استعادة دولته، لكنه آثر القمع والقتل. كما كان يمكنه أن يؤمن بحتمية التغيير بالنسبة للشمال، وأن يقبل بانتخابات حرة نزيهة خالية من تزييف الإرادة الشعبية، لكنه كان ومازال مصراً على التشبث بالكرسي له ولأولاده وأحفاده، وهو ما خلف كل هذا الدمار.
في الصومال، عشر سنوات مرت لملم خلالها الأشقاء الصوماليون جراحهم، وأعادوا بلادهم إلى الطريق القويم، وهم بما يتمتعون به من دهاء وفطنة وثقافة عالية، ورغم كل تعقيدات المشهد السياسي والاجتماعي المشابه لليمن، قادرون على استعادة كرامتهم وحريتهم وسلامهم الإجتماعي، الذي انتزعته منهم الحرب التي طحنت بلادهم لنحو ربع قرن. وفي اليمن عشر سنوات مماثلة مرت، ظل فيها صالح متشبثاً بالحكم، فدمر الأخضر واليابس وأشعل حروباً قتلت وجرحت عشرات الآلاف وجاع بسببها الملايين، وإذا لم يجنح اليمنيون للحكمة قليلاً، ويحكموا العقل والمنطق لذهب ما تبقى من اليمنيين لاجئين يغسلون السيارات في أحياء مقديشو، كما غسل اللاجئون الصومال قبلهم سيارات اليمنيين في الصافية بصنعاء وخورمكسر بعدن.