سمير عطا الله يكتب:
وجوه من رمضان: وقور في بدلة رمادية
كان الشيخ عبد الباسط يومها «نجم» المقرئين، إذا جاز التعبير. وكانت الإذاعات تجمع على بث تلاواته. وذاع في الأوساط أنه تجاوز أعلام التلاوة من أقرانه. غير أن الـ«بي بي سي»، التي انضمت هي أيضاً إلى جمهور الشيخ عبد الباسط، ظلت تقدّم لسامعيها مقرئاً أقل شهرة، وليس أقل وهجاً: الشيخ أبو العينين شعيشع.
وكنت أحرص، ما استطعت، أن أكون إلى جانب الراديو مع مواعيد الشيخ شعيشع، لأنها كانت معدّة مسبقاً، ويعلن عنها سلفاً، في انتظام «إنجليزي» مثل دقات بيغ بن وساعات سويسرا. ولأسباب لا تفسير لها، ولا أهمية، لم أعد أصغي إلا إليه. ولم أكن أعرف عنه شيئاً سوى تلاوته. وقد أخفيت عن جميع الناس تعلّقي بالشيخ، لكي لا يقال إنني أمالئ وأتملّق. وفيما بعد، عندما شاع عني الانصراف الدائم إلى القرآن، سماعاً وقراءة، قيل، في نية صافية، إنني أفعل ذلك من أجل اللغة! ما من لحظة واحدة بحثت في القرآن إلا عن القرآن. فالباحث عن اللغة لا يطلبها في الإعجاز، ومناهلها كثيرة، لكن عندما يدعو محمد صدّيق المنشاوي هاتفاً «اللهم هبني من لدنك رحمة»، أشعر أن الرحمة قد ملأتني بسكينتها. هذه رحمة لا تلتقى في الكتب.
تغيّرت الأمور كثيراً مع التقنيات، وكثرت أشرطة التسجيل، ولم نعد مرتبطين فقط بإذاعة معينة. ذات مرة منتصف الستينات، ذهبت إلى القاهرة، وعدت بمجموعة من الكتب والأشرطة. وعلى طائرة العودة، كان يجلس إلى جانبي رجل وقور يرتدي بدلة رمادية داكنة. كان يبدو مصرياً مثل سعد زغلول، لكنني لم أنتبه إلى أنه شيخ أيضاً. الأرجح أنني أنا من بادر بالحديث. تحدثت عن القاهرة، وتحدث الجار الوقور عن لبنان. تحدّثت عن عظمة مصر، وتحدّث عن جمال بيروت. سألني كيف أمضيت الوقت في القاهرة، فحدثته عن المشي على أرصفة النيل بكل جهاتها وحدائقها، ثم عن سوق الكتب في الأزبكية، وقلت له إنني توفقت بشيء أبحث عنه منذ سنين: أشرطة الشيخ أبو العينين. ورأيت سريعاً دمعتين في عينيه: «دا هوه أنا يا ابني».
إلى اللقاء.