فريدة أحمد تكتب لـ(اليوم الثامن):
أدعياء المظلومية
يعتقد كل نظام حاكم بمجرد انتهاء سلطته بغض النظر عن الطريقة التي وصل إليها حاله أو كيف انتهى, أنه مظلوم. نعم مظلوم, وأبناؤه أيتام, وهم الذين عاشوا بأعلى درجات الرفاهية وأرفع المناصب أثناء حكم النظام الذي كان يديره حزبهم الحاكم, بل وإن البعض من هؤلاء مازال يطالب ويدفع بمنتسبيه لأن يخوض التجربة السياسية من جديد كمنظومة حكم يرون فيها من "الفساد والرشوة والسرقة والنهب والكذب على الشعب" ما يكفي لإعادة إنتاجها من جديد, وإن كانت بوجوه وأسماء مختلفة. فهم حسب تبريراتهم لديهم تراكم ثري في الرؤى والخبرات لإدارة أي مرحلة سياسية مقبلة, ويرى بعضهم أن لديه أحقية وأولوية في أي أدوار مستقبلية يمكن أن تحددها المرحلة بحكم الظلم الذي وقع على أفرادهم وأخرجهم من ديارهم بغير حق.
هكذا يسوّق نفسه كل من ترك السلطة أو أخذت منه, فحزب البعث الذي حكم العراق بقبضة حديدية لعقود, انهار تماماُ كنظام وسلطة وحزب, بعد أن سبب كوارث ومحن لشعب العراق تابع فيه إذلالهم ودهورتهم الغزو الأمريكي, وما لحقه من سلطات مازال العراقيون يعانون من جورها لليوم. وعلى الرغم من المطالبات بعودة البعثيين لمنع صفونة العراق حد تعبير السُنة منهم, إلا أنه مازالت هناك تحفظات كبيرة لعودتهم إلى واجهة الأحداث بدون قيد أو شرط بعد كل ما ارتكبوه من ظلم وجرائم في شعبهم وفي جيرانهم كحزب حكم البلاد لأكثر من 35 سنة. وهو الحال ذاته في مصر بعد أن سقط الحزب الوطني الحاكم والذي انتهى بإحراق مقر الحزب الرئيسي في القاهرة مساء 28 يناير إبان الثورة المصرية في 2011م. والذي يعتقد أعضاؤه السابقين أن ما جرى لهم لا يسر عدو ولا صديق. وبالتأكيد فإن شعور الليبيين الفاقدين لجماهيرية القذافي المستقرة, يتناغم مع نظراءهم في الدول العربية نحو القيام بخطوة الدفع بنجله سيف الإسلام القذافي لترشيح نفسه للانتخابات الرئاسية القادمة.
في اليمن لا يختلف الوضع كثيراً, فمنذ مقتل الرئيس السابق علي عبدالله صالح على يد جماعة الحوثي, يعتقد المؤتمر وهو الحزب الذي حكم اليمن لأكثر من ثلاثة عقود, أنه وبالقوات المدربة التي يملكها التابعة للجيش والحرس الجمهوري, يمكن لها أن توحدهم في الحزب وتدفعهم للانتقام من قتلة زعيمهم, وهذا بحد ذاته يؤهلهم حسب اعتقادهم لأن يحسموا المعركة في اليمن ويديروا أي مرحلة عسكرية وسياسية مقبلة يمكن لها أن تخلص الشعب اليمني من جحيم الحوثيين, أو على الأقل أمام جيرانهم في الخليج الذين يقودون التحالف العربي الداعم الأساسي للحرب في اليمن,
ومن أجل أسباب مشابهة سبقهم في الاعتقاد بالظلم الحزب الاشتراكي اليمني, وهو الحزب الذي حكم في جنوب اليمن قبل الدخول في الوحدة لأكثر من 25 سنة. فقوى اليسار مازالت تنظر لجانب واحد فقط من الحقيقة, تنظر للمحن والمؤامرات والتصفيات التي تعرضت لها من قبل النظام الحاكم في عهد صالح, ولسياسة القمع والتنكيل التي جرت على كوادرهم المدنية والعسكرية بعد الوحدة اليمنية, لكنهم يتجاهلون الحقيقة المظلمة الأخرى التي كانت قياداتهم تمارسها على كل من يعارضهم أو ينتقدهم في بلد انتهى إلى حكم الحزب الواحد جنوباً, والذي كان يمارس أقسى أنواع العقاب والقتل والنفي, قبل انهيار المعسكر الشرقي وظهور نظام عالمي جديد.
وهذا بحد ذاته يقودنا لتفسير قناعة المظلومية لدى الحوثيين أيضاً, خصوصاً بعد سقوط نظام الإمامة إبان ثورة 26 سبتمبر عام 1962م في شمال اليمن, وأن لديهم الحق في استعادة هذا الإرث الذي فقدوه, عبر بوابتهم الدينية التي حكموا من خلالها اليمنيين لعشرات السنين, والمتمثلة في الحق الإلهي الذي يمنحون لأنفسهم به القداسة والعصمة كونهم أحفاد النبي محمد. لهذا يعتقدون أن لديهم سبب قوي اليوم لاستعادة هذا المجد المطلق في السلطة وإن كان على حساب قتل اليمنيين في مناطق نفوذ سيطرتهم وتجويعهم واعتقالهم وتعذيبهم, ولا بأس من الفساد قليلاً ونهب الناس لأجل دعم المجهود الحربي.
المجتمعات العربية والمجتمع اليمني بشكل خاص يعيد إنتاج نفسه حاملاً نفس الموروث وذات الحُلة وإن اختلفت المسميات والألقاب, فمظلومي الأمس يتصدرون السلطة ليمارسوا نفس الظلم الذي وقع عليهم بطرق ربما أشد وأنكى مما مورس عليهم في الماضي, ومن يُمارَس في حقهم الظلم اليوم يطالبون إنصافهم والوقوف إلى جانبهم متجاوزين كل ما فعلوه بالأمس القريب في مخالفيهم. عجلة سياسية محيرة ستظل تدور وسنعجز عن إيقافها ما دمنا نستدعي ماضيها ونرحب بأبطالها دون مساءلة قانونية أو عدالة انتقالية. وبلا شك أن في تجاهل البحث عن الحقيقة وغياب المحاسبة والإرادة السياسية الجادة من شأنه أن يعيق طريق العدالة بين أطراف عملية الانتقال, والتجارب والأمثلة كثيرة في دول العالم.