حرية تدفق المعلومات واحترام الخصوصية
المتلاعبون بالصحافيين واستطلاعات الرأي
إعادة برمجة العقل، هي باختصار شديد آلية تستجد اليوم على جميع الساحات تقريبا وخاصة الساحة الإعلامية.
حرية تدفق المعلومات واحترام الخصوصية والحق في التعبير، التي كانت في متحف الأمم المتحدة وضمن أولويات الإعلان العالمي لحقوق الإنسان 1948، يبدو أنها اليوم في مواجهة عاصفة هوجاء.
الأمر لا يتعلق بالحقبة الترامبية أو ما صار بعض الإعلام وأوساط السياسة الأميركية يسميانه “Trumpism” بل بمخاض وصلت آلية الليبرالية وأنظمة العولمة بما تقتضيه من إعادة برمجة العقل الصحافي والإعلامي، لكن الأمر في ما يتعلق بالترامبية/الأميركية يتّسع إلى التضليل الذي أصاب الجميع وآن الأوان للخروج منه.
ثمّة بديهيات لم يكن هناك متّسع للنقاش فيها مثل القول بأن التضليل الإعلامي يقتضي واقعا زائفا هو الإنكار لوجوده أصلا، هكذا وصفه الفيلسوف وخبير الإعلام هربرت شيللر، أن تعاد برمجة العقل إلى آليّة جديدة قائمة على الإنكار ثم التناقض وصولا إلى الفصام بين ما تراه وما ينبغي أن تفصح عنه.
إذن خروجا على شيللر أيضا لم نعد بصدد المتلاعبين بالعقول، بل بصدد المتلاعبين بالصحافيين الذين تريد منهم الترامبية التخلّص مما كان وأن يروا ما تراه الخوارزميات الترامبية فقط لا غير و(إلا ).. سيكون مستغربا أن تحضر (وإلا) في قلعة الحريات أميركا وما كانت تسمى “ملاذ الأحرار” و”صانعة القيم”، وإلا.. هي كناية عن العصا أو في أقلّه الحساب والعقاب، وهو ما لوّح به الناطق باسم البيت الأبيض بأن الصحافيين قد يُحاسَبون.
الصحافيون الذين تم التلاعب بعقولهم صاروا خطرا حقيقيا، وحقّا أنّ الخطر يكمن في التعبير في أسسه المبسّطة والفطرية، إن ذلك غير مسموح، عجبا، وكأنّ أوريل يحيا بيننا مبشّرا بالعام 2017 العجيب بدلا من العام 1984، حيث تحدّثت روايته الشهيرة عن أجواء كابوسيّة كهذه.
القصة تتسع إلى ما هو أبعد في ما يتعلق بإعادة برمجة العقل الأميركي. ففضلا عن توسيع دائرة (الشك) في ما يكتبه الصحافيون المضلِّلون، فإنهم أيضا شبه متواطئين في سكوتهم عن تغطية جرائم ما يسمّى “الإرهاب الإسلامي”.
الرئيس يقدّم إذن جردة حساب بوقائع إرهابية لم تجر تغطيتها كما يجب، لكنّه وهو يلقي خطابه لم يُدِن ولو بكلمة الفعل الإرهابي الذي تسبب في قتل مسلمين في كندا كانوا يؤدّون الصلاة ولو وقع ذلك الحدث في أميركا وكان ضحاياه من الأميركيين لأقامت الترامبية الإعلامية الدنيا ولم تُقعدها.
تكتمل الصورة بإنكار استطلاعات الرأي التي كانت بالأمس لزوم ما يلزم الرؤساء والساسة الأميركيين كابرا عن كابر حتى وصلنا إلى مرحلة (شبه تحريم) الاستطلاعات لأنها مضللة أيضا في عُرف الترامبية الإعلامية الجديدة التي يبدو أنها تريد من الأميركيين أن يستبدلوا عقولهم بأخرى تتناسب مع رغبات الرئيس، أن يصدّقوا ما يُصدّق وأن يكذّبوا ما يكذّب، وكذلك على العالم أن يفعل و(إلا..)..