نهى الصراف يكتب:

النبي عربي!

أنا من جيل كان يجلس مبهوراً أمام شاشة رمضان ليتابع روائع المصري أسامة أنور عكاشة، الذي أسر المشاهد العربي بحكايات عذبة استلها من واقع الناس البسطاء وغير البسطاء، فكان يصوغها بمهارة واحتراف عاليين. أما الحوار المصقول بعناية فكان من أهم ركائز أعماله بل وأشدّها جمالاً وحضوراً، حوارات بلكنة شعبية خالصة وخالية من الشوائب من دون ضجة أو افتعال. لهذا خلدت في ضمير المشاهد العربي وبقيت إلى أيامنا هذه، أيقونة للبساطة والجمال.

بعد سنوات من التطور التقني في مجال الإخراج التلفزيوني -بما في ذلك تقنيات الإضاءة، والمونتاج، والغرافيك، والمؤثرات الصوتية والبصرية، وأجهزة التصوير عالية الحساسية وغيرها الكثير- صار التغيير الأكثر إبهاراً من وجهة نظري، في أسلوب وهوية ووجهة نظر القائمين على هذه الصناعة الرائجة؛ فلم يعد الممثل البارع هو من “يسرق” الكاميرا، بل أصبحت لكنته ورداؤه وكوب قهوته وقائمة الكلمات الأجنبية التي يقحمها كجمل اعتراضية في متن حوار، أكثر حضوراً منه شخصياً.

بعض المسلسلات العربية التي شاهدت أجزاء متفرقة منها في رمضان، كانت جميلة، بل مشوّقة، لكنها للأسف لم تكن مسلسلات عربية خالصة النكهة، حيث حضرت بعض اللغات الحيّة بقوة في خاصرة السياق الدرامي تماماً مثلما حضرت الإعلانات بثقل ظلها؛ أما الأولى فتركت إنطباعاً بتعالي القائمين على صناعة هذه الأعمال على المشاهد البسيط بطريقة واضحة ومستفزة، والثانية أفسدت عليه تدفق وسلاسة الأحداث.

قبل يومين مثلاً، تعثرت بحوار في مشهد طويل جداً لمسلسل محشو بوقفات وموسيقى تصويرية بتردد أعلى من صوت الممثلين، وكانت اللغة الإنكليزية حاضرة بقوة بين كلمة وأخرى وأحياناً تأخذ شكل جواب عن سؤال. أمر غريب أن يبحث المواطن العربي الصائم عن حكايات خفيفة يحشو بها وقت استراحة قصيرا لتسلية يوم صيامه، فإذا به يواجه بسيل من الاصطلاحات الإنكليزية والفرنسية وربما الألمانية فضلاً عن التركية، يتفوه بها بسلاسة ممثلون وممثلات يقفون طوال الوقت في المستوى الأعلى من السلّم الأرستقراطي، وهم ينظرون بترفع إلى مشاهد بسيط يطالعهم بحيرة من خلف شاشة تلفزيون منزله المتواضع، في محاولة مكشوفة لإبهاره والتشويش أحياناً على ضحالة الحبكة الدرامية.

وهكذا، وبعد أن اعتاد المشاهد على أن يؤثث جلسته أمام تلفزيون رمضان بأطباق لذيذة من المكسرات والحلويات، صار عليه أن يحمل قاموساً متعدد اللغات يساعده على فك طلاسم ورموز الحوار “العالمي”، الذي يتخلل مشاهد مفتعلة حشرت عنوة ضمن السياق الدرامي بصورة غير مفهومة أو مبررة، إضافة إلى غرابة أسلوب الحياة و”الستايل” الغربي في طريقة اللبس والطعام وربما التفكير.

الفن لا علاقة له بكوب “فرابتشينو بالكراميل دبل شوت”، تسحبه البطلة من طاولة المطبخ وهي تحمل جهازها النقّال باليد الأخرى، ثم تتطوح يميناً وشمالاً على أنغام أغنية “ذوز وير ذي دايز”.. وهو لا يعني بالضرورة وضع مساحيق تجميل ورموش ثقيلة وأظافر مسقولة بطلاء لامع، والتمخطر برداء ستايل أثناء تقطيع الخضروات في المطبخ.

الفن هو أن ندعو المواطن العادي إلى مشاركتنا حكاياتنا، مشاكلنا، خيباتنا المنكهة بطعم شاي ثقيل كثقل هذا العالم على أكتافنا، مشاهد قد يجد نفسه من دون أن يشعر يقلّب معنا وعاء الشوربة وهو يرتدي بيجامته المنزلية البسيطة، ثم يشاركنا ليالي السمر في رمضان ويستمتع معنا بنكهة الكنافة على أنغام أغنية لأم كلثوم، مواطن نحدثه بالعربية بالتوقيت المحلي للهموم وضواحيها، والنبي، كما تعرفون سيداتي سادتي، كان عربياً!

العرب