نهى الصراف تكتب:

كلام جرائد

لا أتذكر تحديدا صاحب الشخصية الظريفة الذي خاطب بائع الصحف الذي كان يمرّ بجانبه في يوم غابر، رافضا أن يشتري منه نسخة واحدة، قائلا “لا شيء سوى أخبار بائتة، لم يعد هناك ما يثلج الصدر، ثم.. أخشى أن أطالع صفحة الوفيات يوما ما فأجد اسمي في رأس القائمة!”.

عبّر هذا الرجل المجهول عن منطق غريب يتبناه معظم الناس من دون وعي، حيث تتجاذبهم رغبتان متعارضتان في آن واحد؛ الاطلاع على آخر أخبار العالم في الصفحة الأولى من دون الحاجة لتصفح بقية التفاصيل التي تتسبب في إزعاجهم وتنمي مخاوفهم وتغذي روافد القلق في نفوسهم.

أما إذا كان القارئ صاحب خيال جامح، فإن حصانه الأهوج سيأخذه من دون شك إلى أقصى مديات الإبداع، الإبداع في تخيّل أسوأ ما يمكنه أن يحدث، بقصد إرباك أساسات الثقة بالنفس ومحاولة القفز على مسلمات القدر التي لا مفرّ منها.

قبل أيام عقب مدير منظمة الصحة العالمية على آخر أخبار فايروس كورونا، قائلا “نحن في أرض مجهولة!”.

بالفعل، نحن نطير في فراغ مجهول لا نعرف أوله من آخره، لسنا سوى أرقام تعبر سريعا على روزنامة هذا الكون الشاسع.

في زمن موغل في البعد، كانت إحدى الجدات العراقيات ذات حرب، تجهز لأفراد أسرتها مكانا للنوم فوق سطح المنزل كما جرت عليه العادة القديمة، وبينما كانت تفرد أحد الأغطية، مرّت إلى جانبها رصاصة طائشة فقدت اتجاهها لكنها لم تثلم جسد الجدة وواصلت طريقها إلى الأمام حتى استقرت في زاوية ما من الجدار، لم تمت الجدة في ذلك اليوم، عاشت حياتها بالطول والعرض وربت الأولاد والبنات ثم حملت بعضهم إلى قبورهم وفقدت بعض الأحفاد في حروب أخرى لم تكن فيها الرصاصات طائشة بما فيه
الكفاية.

هذه الأخبار وصلتني مصادفة ولم يسمع بها سوى مجموعة من أقارب الجدة وجيرانها، وبعد أن مضى عليها زمن طويل خفت بريقها فصار بعض الناس يتداولونها وكأنها أساطير وحكايات غريبة لا يمكن تصديقها.

مات الأجداد في سالف الأزمان بحمى طارئة أو حتى قرصة بعوضة، ولم يسمع بموتهم أحد؛ أجدادنا لم يمتلكوا في حياتهم أجهزة كمبيوتر ولا إنترنت ولم يكن البحث في أسباب موتهم بالأمر المهم، حتى الصحف البدائية لم تكن تعنى بالأرقام في حينها؛ يموت الإنسان في قرية نائية في العراق أو فرنسا أو الصين من دون أن يشعر به أحد عدا المحيطين به في دائرة اجتماعية ضيقة.

أما اليوم فإننا نتابع أخبار مرضى الفايروسات في أقصى أقاصي الأرض، دون أن نبرح أماكننا خلف شاشة الكمبيوتر بينما تفلت من شفاهنا قطرة من عصير القهوة الساخن بسبب تعبير دهشة يظهر على ملامحنا أثناء تصفح أخبار الجريدة؛ الأخبار تتابع الأموات حتى مثواهم الأخير وتلاحق خط سير الاقتصاد العالمي المتعرج، تناقش مع علماء البيئة في عقر مختبراتهم الاحتمالات والمخاطر، كما تشم روائح الخذلان واللاجدوى في أروقة الاجتـماعات السياسـية العالمية.

نحن محاصرون بكلام “الجرايد” من كل الجهات؛ مواقع الصحف الإلكترونية، الصحف الورقية، نشرات الأخبار التي تداهمنا على رأس الساعة في التلفزيون، حتى بعض غرف المنزل تمثل بؤرة للقلق مثل غرفة المعيشة وغرفة المكتب، حيث تتصدر أجهزة الكمبيوتر والتلفزيون الزوايا وتدعونا إلى جولة سريعة في محطات القلق.

متى سنواجه كل هذا وكيف نبدأ صباحا رائقا دون منغصات؟

الأمر بسيط للغاية؛ علينا استنشاق روائح الذكريات بتأن على مسؤولية كوب من القهوة الرائقة للبدء في وضع خطة يوم جديد محاصر بالواجبات والعمل المثمر، ولتطبيق وصفة شهية من عجينة الخبز وانتظار وقت اختمارها لا بد من تحضير طبق من سلطة الجبنة والاستمتاع بإضافة الألوان تدريجيا؛ الأحمر للطماطم، الأخضر للخيار، الأسود لحبات الزيتون، العطر لورق النعناع والزعتر، متى ما اختمر العجين وصنعت أقراص الخبز فإن الرائحة التي ستخرج من تسريبات فتحة الفرن ستكون بالتأكيد رائحة الذكريات الجميلة، رائحة الماضي أو كما يسميها محمود درويش.. “رائحة الخبز في الفجر.. عشب على حجر.. أول الحب.. “.

أن نموت مبتسمين أفضل من أن نموت عابسين، مجرد صورة سيلفي لعضلات الوجه قبل لحظة النهاية، ربما تصلح للنشر في صفحتنا الشخصية على الفيسبوك من قبل الورثة!