نهى الصراف تكتب:

عربيات داخل تجربة العزلة.. التطلع إلى جوهر الحياة في مرآة الموت

حتى لو تمكنا من إقفال كل أبواب المجهول وفتحنا نافذة الأمل على مصراعيها، فلن يتسنى لنا فعل ذلك إلا ونحن محصنون بجدار العزلة؛ الاصطلاح الأكثر تداولا في أيامنا هذه بسبب جائحة كوفيد – 19، حيث بدأ أغلب سكان الكرة الأرضية باختيارهم الشخصي أو بقوة القانون عزلتهم الجسدية عن المجتمع والاكتفاء بحيز ضيق هو حدود منازلهم المتواضعة.

تذكرنا العزلة غالبا بالعقاب،عندما يعاقب الآباء أبناءهم المشاكسين ويأمرونهم بالذهاب إلى غرفهم لقضاء بقية اليوم لوحدهم، أو بعقوبة الحبس لمن ارتكب جرما واضحا قد يمتد لفترات طويلة، لكن ما الذي ارتكبته شعوب الأرض لتتحمل وزر الحبس بكل آثاره النفسية المدمرة؛ الحرمان الاجتماعي، تقييد حرية الحركة والحرمان من التمتع بخيرات الطبيعة والتجوال في ربوعها؟

سيدات عربيات يقضين أيامهن منذ فترة ليست بالقصيرة داخل أسوار العزلة، هناك قليل من الخوف وكثير من المجهول في بيئة نفسية عرضة للتبدل في كل لحظة، ومع ذلك، لم يكن عبور حاجز التغيير الذي فرضته تداعيات كورونا عليهن شاقا في الظاهر كما هو لدى الرجال، لكنه ترك ومازال الكثير من الندوب النفسية على جدران أرواحهن الطرية.

وفي حديثها عن العزلة، تقول إشراق سامي؛ أستاذة الأدب العربي في جامعة البصرة – جنوب العراق “منذ أن حل الحجر المنزلي بديلا عن أيامنا المحتشدة بالعمل، وأنا أحاور نفسي، هل يبدو الوقت الممطوط هذا تعويضا حسنا عن إرهاق الركض وراء الساعات؟ ساعات بوجوه لا تتغيّر، فساعة الاستيقاظ عند الفجر نفسها والمغادرة نحو مدارس الأولاد تتقدم وتتأخر لدقائق معدودة فحسب، ثم تحل ساعة الوصول إلى العمل. ولأنني أوصل أطفالي إلى المدرسة فيصادف ذلك نوعا من التبكير عن زملاء الجامعة، فيما أتشارك مع زميلة لي ساعة الصباح الأولى، نسخن الماء ونصنع شايا أو بعض القهوة، نقضم البسكويت والوقت ونحن نتشارك هموما صغيرة”.

وتابعت “هموم الأمومة أو الوطن أو الوجبة اليومية التي نعدها من الليل، ربما نتحدث أيضا عن حلم راودنا في الليلة الماضية، أو قناع مفيد للبشرة المجهدة من اللهاث وراء وجوه الساعة الحازمة، التي لا تقبل التأجيل ولا التسويف”. وتؤكد سامي “لم تكن في مواقيتنا متع كثيرة. ليست هناك مقاه أو جلسات أدبية للحوار، لا وقت للنوادي الرياضية، لا أماكن للتجول الممتع، باستثناء الأسواق التي نسترق لها زمنا مقتطعا بين موعد اصطحاب الأطفال إلى المنزل وموعد خروجنا في بعض الأيام الجامعية الخفيفة للتسوق السريع”.

ولفتت إلى أن عبور حاجز التغيير الذي فرضه كورونا لم يكن شاقا فمنذ البداية كانت الكمبيوترات هي الرفيق الذي نقضي معه الكثير من الوقت، لكتابة وترتيب محاضرات اليوم التالي، مثلما كان الكتاب أداتنا الأساسية في الوظيفة، وبسبب ذلك ربما كنت قد قلصت العلاقات الاجتماعية. وأنا أفترض أن اليوم الذي يتسع لعمل كل شيء، لم يحن بعد، لكنه سيأتي بكل تأكيد.

وتضيف “لكن ثمة أسئلة صارت أكثر قتامة وحزنا، منها ما يتعلق بالدوران في حلقة البيت المفرغة، العمل المنزلي الشاق الذي لا ينتهي، ولا يشكل فرقا ملحوظا في الحياة عامة، وأسئلة تتعلق بالنساء ربما، أو بالإنسان حين يفقد القدرة على التحكم بمصيره ويدور في فضاء الخوف والمجهول، لكن لا بأس كل هذه الأمور ستمضي طالما امتلكت وقتي الآن، لأعيد فتح ملفات أجلتها كثيرا، أشياء أحبها ولم أكن أجد الزمن الذي تحتاجه لأمنحها إياه، لكن المفاجأة كانت صادمة فقد باءت محاولاتي لفتح نوافذها بالفشل التام في إقامة أي نوع من التواصل اللذيذ كما اعتدت معها، وليس ثمة شغف حقيقي يدفعني لابتكار اللحظة وصنع الوقت الذي أحب!”.

وتؤكد الفكرة الشائعة بأن التفاعل الاجتماعي ضروري من أجل أن يبقى الناس سعداء، هذا يعني بأن تطبيق الحجر الصحي والتباعد الاجتماعي على الملايين من البشر لأسابيع وربما شهور، قد يعني بأن مستويات السعادة ستنخفض بشكل فظيع.

وتقارن آمال شدّاني وهي معلمة في مدينة البويرة  الجزائرية، عزلتها الحالية بتجربة شخصية مماثلة عاشتها لكن منفردة، تقول “تعرفت على العزلة لأول مرة عندما تزوجت، فعلى ما منحتني مدينة بسكرة الجزائرية من حب إلا أنها أخذت مني الشيء الكثير، فقد تعرفت فيها على كيفية إيجاد أشياء أخرى لأحبها وأناس أتعوّد على وجودهم رغم الحضور الخفي للآخرين في داخلي، فحتى الذين عرفناهم لفترة قصيرة نحن نحتويهم لبقية حياتنا مع كل حدود نقطعها”.

وأوضحت “كما قال لوسيان فرويد، من هنا فإن تجربتي غيّرت ما عنته لي العزلة التي طالما اعتقدتها وجاهة يحظى بها المبدعون في أوقات حياتهم، بالمقابل ذكرتني أن كل شيء مهمّ حتى الأشياء التي نكرهها، لأن كل حدث هو سيرة حياة”.

وتابعت “مع عزلة كوفيد – 19 تحطمت حتى مبرراتي التي كنت أعيش إخفاقاتي عليها فقد ظننت ككل عشاق القراءة الذين غيبتهم مشاغلهم عنها، أنني سأتحين الفرصة لأنتقم من الوقت الضيق بعد أن أنهكتني مهنة التعليم، إلا أنه كان أكثر حدث أشعرني بالعزلة والاكتئاب وأنا أشاهد انهيار العالم أجمع أمام صعوبة إيجاد طريقة لإبطاء انتشار الفايروس”.

وأضافت “كل هذا ولّد عندي اضطرابا نفسيا وخوفا مرضيا من الموت، ولا يمر يوم إلا وأفكر بضرورة لقائي بمن أحب حتى ولو عنى ذلك انتشار العدوى. عند استيعابي أخيرا لما قاله هيدغر ‘حين يجلس المرء في حجرته محاطا بالموت، يستطيع أن يكتشف طبيعته الحقيقية’، لم أعد أشعر بتأنيب الضمير من أن يضيع الفراغ الذي وفرته لي الظروف بلا استغلال، أنا لست نيوتن الذي أوجد نظريات الفيزياء الكلاسيكية من حجره الصحي أثناء وباء الطاعون، أنا آمال؛ معلمة من الجزائر، أريد العودة إلى تلاميذي والتدفؤ بحضن أمي!”.

سيدات عربيات يقضين أيامهن منذ فترة ليست بالقصيرة داخل أسوار العزلة، هناك قليل من الخوف وكثير من المجهول في بيئة نفسية عرضة للتبدل في كل لحظة

وقد لا تمنحنا عزلتنا الحالية التي يضللها الخوف والمجهول واللايقين بيئة نفسية ملائمة للشعور بالسعادة أو التخطيط لمستقبل قريب.

وتشير إكرام لغمامي؛ شابة مغربية من تزنيت، تعمل معلّقة صوتية وتزاول التدريس أحيانا، إلى أن حياتها “مغلقة للصيانة” بعد أزمة انتشار الفايروس. تقول إكرام “بعد أن أغلق العالم فجأة، عدنا مضطرين إلى بيوتنا، خائفين من المجهول، منزعجين من فقداننا للسيطرة على حياتنا. وكاعتذار عن كل ما اقترفته في حق نفسي لسنوات، اخترت أن أتوقف عن القلق، وأستلقي على سريري أغمض عيني وأتنفس الصعداء. أسبوعان مرا على فرض السلطات هنا للحجر المنزلي، قرأت فيهما كتبا، مكثت فوق منضدتي لأزيد من سنة، شاهدت أفلاما لم أكن أملك لها وقتا ولا جهدا، تناولت طعاما صحيا، نمت دون أن أحدد وقتا للاستيقاظ، وعدت تلقائيا إلى الكتابة”.

وتتابع “أدرك تماما أن الوضع مأساوي بالخارج، أعداد المصابين ترتفع بجنون، فُقدت أرواح، ولا نعرف مصيرنا، لكننا كنا بحاجة إلى عزلة إجبارية لنعود إلى أنفسنا، لنتصالح مع ذواتنا ونكف عن الهرب منها، وندعها ترينا جوهر الحياة في مرآة الموت”.

وختمت “إنها دعوة لإعادة حساباتنا، وللتفكير في الأشياء التي تختزل وجودنا، والتي نكون قد نسيناها أثناء الركض. كنا بحاجة إلى وباء كهذا لنبدأ بتقدير الأمور العادية، وإحصاء النعم التي لم نكن نشعر بها، كالذهاب إلى التسوق دون خوف، الاستمتاع بفنجان قهوة على رصيف مقهى، الخروج من البيت في أي وقت، السفر أو معانقة صديق”.