نهى الصراف تكتب:

حياتنا اليومية

يساعدنا المعتاد والروتين على الشعور بالمزيد من التماسك والأمان، فإذا ما غابت مقوماته عن حياتنا اليومية شعرنا بالفراغ وعدم الاستقرار النفسي، الروتين قد يتعلق بالتفاصيل الصغيرة في العمل اليومي خارج المنزل أو داخله بما فيه أوقات الراحة وممارسة الهوايات الشخصية، وأي تغيير في وتيرة هذه التفاصيل وفقا لأي مستجدات ربما تفرض على أحدنا عزلة اختيارية أو إجبارية سيكون له تأثير سلبي؛ فالمرض مثلا يقعد صاحبه عن الحركة ويعيق حركته وتنقله تماما كما تفعل خسارة الأحبة بموت أو فراق، وتغيير العمل وفقدان المورد المادي أو مكان العيش وكل ما من شأنه أن يكسر قواعد الروتين في حياتنا له تأثير مماثل.

وما دمنا على قيد الحياة فإن التغيير سمة ملازمة لنا حتى إذا كان في صيغته البسيطة فهو أمر لا مفر منه بالتأكيد، حتى وإن كان متوقعا بشكل أو بآخر، فإنه سيتحول في مرحلة ما إلى تجربة غير مريحة عندما يتبعه شعور مزعج بعدم اليقين والشك والمجهول الذي لا نعرفه، الانتقال من المألوف إلى المجهول يرتبط دائما بشعورنا بالخسارة وبفقدان السيطرة على مسار حياتنا، باجتياز حدود الهاوية التي نعرفها إلى هاوية أخرى لا نعرفها ومهما كانت النتيجة بعيدة الأمد، فإننا لا نلبث أن نتساءل ترى هل كان التغيير ضرورة وهل في الإمكان التراجع عند نقطة ما، أم ينبغي أن نكمل لنجتاز هذه المرحلة المزعجة إلى مرحلة بين المرحلتين بكل ما يحيط بها من مشاعر القلق والتوجس؟

تطرأ على عالمنا هذه الأيام موجة كاسحة من التغيير بسبب الوباء الذي صرنا أسرى لمساراته المجهولة، يربط يومياتنا بحباله الطويلة ويسحبنا إلى طرق مجهولة لا قبل لنا بانحناءاتها وتفرعاتها. نستيقظ صباح كل يوم على أمل أن يكون كل ما فات حلما مزعجا، لكننا سرعان ما نتطلع إلى روزنامة التقويم فنجد أن التاريخ لم يتقدم سوى يوم واحد، بل ساعات قليلة كانت تفصلنا عن اللحظة التي استغرقنا فيها بالنوم.

مهما كانت طبيعة العزلة التي فرضتها علينا الظروف، فإن من شأنها أن تعيد تشكيل يومياتنا بما يتناسب وأوقات الفراغ الكبيرة التي ستكون مفاجأة غير سارة، خاصة من اعتاد العمل طوال حياته من دون وقفات حتى وإن كانت قصيرة لاسترداد الأنفاس.

لكن أوقات الفراغ هذه غير موجودة عمليا، متى ما كان بوسع المرء أن يشغلها بما هو مفيد ومثمر له وللأفراد في محيطه، ومهما كان شكل المكان الذي نقطنه، من حيث مساحته وأبعاده، فهناك الكثير مما نفعله في الحقيقة عدا تخطي حاجز المسؤوليات؛ إعادة ترتيب الفوضى في تفاصيل عيشنا وعقولنا على حد سواء تلك التي تراكمت بفعل سنوات من الركض المستمر من دون توقف، فهذه فرصة أخرى لالتقاط الأنفاس وإزالة غبار الإهمال عن كتب لم نكمل قراءتها أو مساحات جرداء في حديقتنا الخلفية تركناها عرضة للعواصف والطقس السيء من دون أن نترك فيها بذرة أمل واحدة.

يجد بعض الناس في الشعور بعدم اليقين الذي يصاحب أي تغيير تحديا للذات ومدى قوتها في مواجهة الفشل والإحباط الذي تولده محاولات أو أهداف لم تكتمل أو لم يكتب لها النجاح، وربما يكون شبح المجهول الذي نخافه هو الضوء الذي ينير نهاية النفق.

سيكون الصيف المقبل رهاننا الوحيد على الاستمرار والتجدد ربما لنقلّب تربة حياتنا الخلفية ونعرضها للشمس ثم نبذر فيها حفنة من أمنيات، قائمة جديدة من البدائل والخيارات التي تعوضنا عن خسارات سابقة وحالية والتعرف إلى إمكانات جديدة في شخصياتنا لم نكن قد تعرفنا عليها قبل ذلك.