نهى الصراف تكتب:

الحظر من الافتراض إلى الواقع

تتيح لنا الحياة الافتراضية التصرف بحكمة وحرية اتخاذ القرار أكثر مما يسمح لنا به الواقع، مع ما توفره لنا مواقع التواصل الاجتماعي وتطبيقات الهاتف الجوال من خيارات حظر وإلغاء الاتصال بالأصدقاء والغرباء المزعجين أو الذين يظهرون إشارات عدوانية غير مريحة بين الحين والآخر، في المقابل فإننا نحصل على هدوء نفسي مباشر مع تطبيق خيار الرفض الذي يأتي بصيغة حظر الشخص المستهدف، حيث يكف عن أن يكون مزعجا وبالتالي يوفر علينا مهمة مواجهته الصريحة ويضيع عليه فرصة مضايقتنا مجددا. هذا الفعل لا يمكن أن يتوافر بصيغته السريعة والحاسمة في حياتنا الواقعية، فحتى مع الأصدقاء، أو من نظنهم هكذا، يتعذر علينا إجراء حظرهم من حياتنا بتلك السهولة من دون تحمل تبعات فعلتنا التي قد يراها الآخرون قلة احترام أو صفاقة في أحسن الأحوال، لكن ما الذي يقسرنا حقا على مجاراة صديق أو غريب ينغص علينا يومياتنا بحضوره السمج ورصاصاته اللفظية التي يطلقها بوجهنا بمناسبة وبغير مناسبة؟

قطعا، ليس هناك من مبرر منطقي لتعزيز علاقتنا بأشخاص لا يمثلون لنا أي إضافة مهمة، عدا أنهم يوفرون لنا أوقاتا عصيبة بسلوك أو قول لا نستسيغه، بإصرارهم على انتقاد أفعالنا وفرض آرائهم التي لم نطلبها إضافة إلى التلويح بعدوانية غير ظاهرة لكنها كامنة بين طيات الكلام المستفز، لسبب نجهله معظم الأحيان.

في الصيغة المباشرة، فإن من أكثر الحواجز الاجتماعية التي تقف حائلا بين التعبير عن مشاعرنا الشخصية الحقيقية ورغبتنا في الاحتفاظ بصورتنا الظاهرية المسالمة أمام الناس، هو الشعور بالحرج؛ حيث تمنعنا خشيتنا مما سيقوله عنا الآخرون إذا ما تبنينا موقفا معينا لا يبدو في عرفهم الاجتماعي لائقا أو حتى يحمل مستوى معين من القبول، الشعور بالحرج يحركه في الغالب الخوف من ألا نظهر بصورة جيدة أمام هؤلاء المتربصين بنا أو أن يوصف سلوكنا وردود أفعالنا بالغرابة فضلا عن شعورنا المزعج بأن الجميع يراقب أفعالنا في لحظات معينة، هذه المشاعر القوية والخوف من المواجهة يبلغان ذروتهما في مرحلة الشباب بالذات؛ حيث تتنامى رغبة الأفراد في أن يكونوا على مقاس الحيز العام وجزء من المجموع لا يشذ عنه، لهذا فهم يحاولون قصارى جهدهم أن يكونوا متوافقين مع تصور الآخرين المسبق لردود أفعالهم.

مع التقدم في العمر والتجربة فإننا نميل إلى إزالة القشور الاجتماعية الزائدة عن حاجتنا، ثم نستعين بمصباح حكمتنا الذاتية في إضاءة المناطق المظلمة من نسيجنا الاجتماعي، ربما ننجح في غربلة قائمة الأصدقاء أو نصبح أكثر مرونة في الابتعاد تدريجيا عن المواقف التي تزعجنا، والأهم أن نبتعد بمسافة آمنة عن المجموع، عندها يتلاشى هذا الشعور بالحرج إذ يتضح لنا أن ردود أفعال الآخرين هي في حقيقتها أقل بكثير مما توقعناه ولا تستحق كل هذا العناء، الأمر الذي يجعلنا نشعر بالحرية والاتزان مجددا بعد أن نتخلص من وهم سيطر علينا طويلا؛ الوهم الذي كان يصورنا وكأننا مكشوفون للضوء طوال الوقت.

بعد ذلك، نرسم استراتيجيتنا المتفردة في تخطي كل ما من شأنه أن يسبب لنا الضيق والحرج حتى تصبح الأشياء تدريجيا أقل أهمية.

لن تكون المواجهة الشخصية خيارا وحيدا لإقصاء الآخر الذي لا نرغب في وجوده في حياتنا، فهناك خيارات واسعة لعل أخفها وطأة على الطرفين هي التجاهل أو تجنب اللقاءات أو المكالمات الهاتفية والرسائل النصية، وهذا الخيار تتصدى فيه التقنية، مرة أخرى، لتقديم خدماتها المجانية أو في الأقل ستكون الوسيلة المناسبة وغير المكلفة للتمهيد لقطيعة طويلة، ربما يتبعها لقاء آخير، حوار أخير أو لا شيء،  طالما أن الحليم تكفيه إشارة!.