شيماء رحومة يكنب:

مع أو ضد

استوقفني منذ مدة خبر موزع كيفما اتفق بين جملة الأخبار الواردة من رحاب هذا العالم الواسع، إن تم ربطه بالغرب سيكون استنكاره بلا معنى، مفاده رفع والدين أميركيين قضية ضد ابنهما يطالبان فيها بطرده من المنزل العائلي.

وقد أيد القاضي موقف الزوجين من ابنهما البالغ من العمر 30 عاما والعاطل عن العمل، وقد لجأ الوالدان إلى القضاء بعدما طلبا -على مدى عدة أشهر- من ابنهما مغادرة منزلهما، لكن دون جدوى، معتبرين أن بإمكانه أن يتدبر أمره في سن الثلاثين.

كما قلت سلفا مثل هذه الحوادث كثيرة ومتعددة الأوجه في ثقافة الأسر الغربية التي تجيز وتبارك استقلالية أبنائها في سن مبكرة، لكنها حملتني في الآن ذاته على التفكير بعمق في حال الشباب العربي وحالة الفطام المستعصية التي تجمعه بأهله ولا سيما الأم.

ينشأ الطفل في الغرب مستقلا بسريره وغرفته ومن ثمة بسكنه وحياته، في حين يتربى المدلل العربي بين أحضان والديه مبعثرا على سريرهما وغرفتهما وبعد ذلك يظل معولا عليهما أحيانا كثيرة حتى بعد الزواج يتقاسم معهما السكن والغرفة لِمَ لا.

قد يكون للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية صدى يؤجج هذا الارتباط الوثيق بين العائلات العربية وأبنائها لكن هذا لا يعني أن الأسر الغربية كلها ميسورة الحال لا تشكو عوزا، فالمسألة تتلخص في اختلاف العقليات ومناخ التربية.

الشباب العربي يبحث عن فرص وإن كان ثمنها الموت أو الفشل أو الضياع ليحظى بحياة غربية غالبا يجهل كل الجهل أبعادها وخلفياتها والغايات من ورائها، بينما تفطن الشباب الغربي إلى أهمية العائلة

تحرص العائلة العربية على عدم خروج أبنائها من المنزل العائلي إلا إلى عش الزوجية، لكن في ظل تفاقم البطالة بمناطق دون أخرى أو استكمال الدراسة اضطر بعض الشبان إلى الانفصال عن أهاليهم والابتعاد عن مسقط الرأس.

ومع ذلك ليس كل الشبان مكرهين على السكن بمنأى عن عائلاتهم، إذ هناك من توفرت له كل سبل الدراسة والعمل في منطقته فلم يضطر إلى المغادرة أو خوض تجربة قساوة التعويل على الذات وتقدمت به السن دون زواج وتحمل المسؤوليات، هذا الصنف من الأبناء بالضبط هو ما يمكن مقارنته بنظيره الغربي، لأنه مع الوقت يصبح من ينتمي إلى هذا الصنف حساسا ومتأثرا بأبسط العبارات التي يوجهها إليه ذووه ويرى فيها نقدا لاذعا ويحز في نفسه أنه صار عالة على عائلته.

وعلى الرغم من أن المناخ الأسري يربي في الناشئة حب اللحمة العائلية إلا أن ذلك لا يمنع الشرخ العميق الذي يولد مع الأيام ويعمق مأساة الشبان في علاقاتهم بمحيطهم الأسري، إذ تتحول الأشياء من حولهم إلى محسوسات تكرس للقطيعة بينهم وبين ذواتهم فتضيق عليهم الجدران وتكبس على أنفاسهم وتتراقص كل الموجودات لتقلب هدوء الغرفة إلى عواصف هوجاء لا تكاد تهدأ وكأنها تستفز ساكنها وتحثه على الانعتاق ويبدأ الصراع الحقيقي بينه وبين سرير رافقه طفلا وضاق به ذرعا حين صار شابا، يرتمي عليه كَارها فيحتضنه السرير لافظا، فيعايش غربة نفسية قاسية بكل المقاييس.

في الواقع يحاول من تقدمت به السن دون أن يغادر منزل العائلة أن يعيد التعرف على الأشياء من حوله وأن يعيد ترتيبها لكن دون جدوى، فالرغبة الملحة في الاستقلال تكاد تضيّق عليه الخناق.

في المقابل، أظهرت دراسة أميركية حديثة أن نحو ثلث (32.1 بالمئة) من الأميركيين بين سن الثامنة عشرة والرابعة والثلاثين كانوا لا يزالون يقيمون عند أهاليهم في 2016.

وعلى ما يبدو لا أحد راضيا عن وضعه، الشباب العربي يبحث عن فرص وإن كان ثمنها الموت أو الفشل أو الضياع ليحظى بحياة غربية غالبا يجهل كل الجهل أبعادها وخلفياتها والغايات من ورائها، بينما تفطن الشباب الغربي إلى أهمية العائلة ويسعى إذا أتيحت له الفرصة إلى التعرف على المناخ العربي عن كثب عن وعي وتقص مسبقين، ومع ذلك يبقى السؤال العربي الشهير، هل أنت مع أو ضد استقلال الأبناء بالسكن؟ وتتم الإجابة عليه بنفس العربي النابذ لكل ما هو غربي منحل.